د. حسن سلمان، باحث في الدراسات الشرعية والسياسية

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله الأمين وبعد:

قال تعالى: (وَلَا تَلبِسُوا الحَقَّ بِالبَـاطِلِ وَتَكتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُم تَعلَمُونَ) البقرة/42

إن من أعظم ما نزل به الكتاب العزيز هو الإخبار بالحق الثابت وبيانه وأهمية لزوم الناس له وترك ما يناقضه من وهم وباطل وزيف وضلال قال تعالى:

(هُوَ الَّذِي أَرسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَو كَرِهَ المُشرِكُونَ)

التوبة /33

وأعظم الحق الذي دلت عليه الشريعة هو الله جل جلاله قال تعالى

(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدعُونَ مِن دُونِهِ البَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ)

لقمان /30 والشريعة متضمنة الإخبار عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله ووجوب العلم به ولزوم عبادته فهذا أعظم الحق الذي نزل به الكتاب ويقابله أعظم الظلم وأشده وهو الشرك بالله فإنه من الباطل والزيف الذي جاءت الشريعة لتحريمه وبيانه خطره وسوء عاقبته وبما أن الله تعالى هو الحق فكذلك كتابه وشرعه ورسوله وجنته وناره كلها من الحق الذي أخبرت به الشريعة ودلت عليه وأمرت بالتمسك به وعدم الركون إلى غيره من الباطل مهما تزين ببهرج التلبيس والتزييف لأن ذلك لا يغير من حقيقة الأشياء وماهيتها فالحق ثابت والباطل زائل وعلى المسلم أن يكون واثقا بما معه من الحق موقنا به داعيا إليه ومبشرا به قال تعالى

(وَبِالحَقِّ أَنزَلنَـاهُ وَبِالحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرسَلنَـاكَ إِلَّا مُبَشِّرا وَنَذِيرا)

الإسراء/105:

(وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا)

الكهف /29

ومهما تطاول الباطل وأهله وتظاهروا بالعلمية والموضوعية والمنهجية فلن يبلغوا معشار ما دلت عليه النصوص الشرعية من بيان حقائق الوجود كله وتجاوز الظواهر إلى عمق الحقائق الكامنة قال تعالى

(وَلَا يَأتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئنَاكَ بِالحَقِّ وَأَحسَنَ تَفسِيرًا)

الفرقان/33

(يَعلَمُونَ ظَـاهِرًا مِّنَ الحَيَوةِ ?لدُّنيَا وَهُم عَنِ الَآخِرَةِ هُم غَـافِلُونَ)

الروم /7

ولئن كان من مقاصد الشارع بيان الحق ووضوحه وجلائه فإن مما يناقض ذلك كتمانه بعدم البيان والدعوة والتبشير والصبر على الأذى الذي يلاقيه الداعية للحق وكذلك تكون المناقضة بتلبيس الحق بالباطل أي بتشويش الدلائل والبراهين الساطعة بغرض صرف الناس عن الحق وإضلالهم وهذان الطريقان من أعظم الصوارف عن الحق كما يقول العلامة الرازي في تفسيره (واعلم أن إضلال الغير لا يحصل إلا بطريقين وذلك لأن الغير إن كان قد سمع دلائل الحق فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش تلك الدلائل عليه وإن كان ما سمعها فإضلاله إنما يمكن بإخفاء تلك الدلائل عنه ومنعه من الوصول إليها فقوله (ولا تلبسوا الحق بالباطل) إشارة إلى القسم الأول وهو تشويش الدلائل عليه وقوله (وتكتموا الحق) إشارة إلى القسم الثاني وهو منعه من الوصول إلى الدلائل).

وتاريخ الأديان حافل بمظاهر التلبيس والكتمان والتحريف والتبديل وكانت عملية تتابع الرسالات وتجديدها عاملا مهما في نفي التلبيس وإزالة الغبش وإقامة الحق وفي الرسالة الخاتمة حفظ الله لهذه الأمة كتابها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فهي باقية ومحفوظة وخالدة رغم المحاولات المتكاثرة التي لا تتوقف ولا تنقطع من أعداء الملة والدين للتلبيس على الناس وكتمان الحق عنهم وقد مرت مراحل عديدة في تاريخ الأمة المسلمة حاول فيها الأعداء صد الناس عن الحق بطرق شتى وأساليب مختلفة والغرض في كل ذلك معلوم سلفا كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم

(وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء)

النساء/89

(وَوَدُّوا لَو تَكفُرُونَ)

الممتحنة/ 2

فالمقصود من كل المحاولات التي يبذلها أعداء الإسلام – بما فيها القتال – هو إخراج المسلمين إلى دائرة الهوى والضلال والكفر قال تعالى

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}

(البقرة 217)

وقد فصل فضيلة الشيخ بكر أبو زيد – رحمه الله- المراحل التاريخية لتبديل الدين وتلبيسه وخلطه بالباطل وذلك في كتابه (الإبطال لنظرية الخلط بين الإسلام وبقية الأديان) مبينا المراحل والأساليب في كل فترة تاريخية وكذلك الآثار السالبة المترتبة على ذلك وألخص كلامه فيما يلي:

المرحلة الأولى:

كانت في العصر النبوي حيث ذكر القرآن الكريم المحاولات المستمرة لإضلال المسلمين وإخراجهم عن دينهم وحينها كان الوحي يتنزل غضا طريا والرسول حاضر يبلغ رسالة ربه قال تعالى:

(وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ۖ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

البقرة /109

﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ تَهْتَدُوا ۗ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾

البقرة /135

فكان التنزيل الحكيم يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق حتى بلغت الرسالة منتهاها وكمل الدين وتمت النعمة.

المرحلة الثانية:

وهي مرحلة ما بعد القرون المفضلة حيث ظهرت مفاهيم باطلة وحديثة تقول بأن الملل اليهودية والنصرانية والإسلام هي بمنزلة المذاهب الفقهية الأربعة عند المسلمين وكلها توصل الى الله ثم تلقى هذه الفكرة دعاة وحدة الوجود والحلول والاتحاد من ملاحدة المتصوفة في مصر والشام وأرض فارس وغيرهم من غلاة الرافضة حتى صار فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام وخاصة من الفلاسفة وقد كشفهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه.

(الفتاوى /4/203/208 -14/164/167-28 /523 والرد على المنطقيين/ 282/ 283)

 وقد تم مواجهتها والرد عليها من علماء الإسلام جملة وتفصيلا.

المرحلة الثالثة:

وهي في النصف الأول من القرن الرابع عشر حيث قد تبنت هذه الفكرة الماسونية وهي (منظمة يهودية للسيطرة على العالم ونشر الإلحاد والإباحية) تحت غطاء وحدة الاديان الثلاثة ونبذ التعصب بجامع الإيمان بالله تعالى فكلهم مؤمنون بحسب زعمهم (الموسوعة المسيرة 449/454)

 ونشأت بعض جمعيات التقريب الديني في عالمنا الإسلامي وتورط في حبائلها بعض الرموز والشخصيات البارزة في عالمنا الإسلامي (تاريخ الأستاذ الإمام/ محمد رشيد رضا/1/817/829)

 وقد دارت حوارات كثيرة حول إمكانية الجمع بين الإسلام والنصرانية روحيا أو ماديا ولكن رأي بعض النصارى استحالة أو صعوبة ذلك ومنهم (إبراهيم لوقا) ولكنه استسهل الجمع بين المسلمين والنصارى في مصالح الوطن حيث قال(لا سبيل إلى الوحدة الكاملة إلا بأن تعتنق إحداهما مبادئ الأخرى فإما إيمان بلاهوت المسيح وتجسده وموته وقيامه فيكون الجميع مسيحيين وإما إيمان بالمسيح كواحد من الرسل والنبيين فيصبح به الجميع مسلمين) صحيفة الهلال الأعداد/484/ 485 لعام 1357/ 1358هجرية.

المرحلة الرابعة: وهي تجدد تلك الدعوات في العصر الحاضر:

وذلك في الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري وحتى عام 1416 هجرية وفي ظل النظام العالمي الجديد جهرت اليهود والنصارى بالدعوة للتجمع الديني بينهم وبين المسلمين وبعبارة أخرى التوحيد بين (الموسوية / العيسوية / المحمدية) باسم: (الدعوة إلى التقريب- التقارب- بين الأديان).

وباسم (نبذ التعصب الديني) (الإخاء الديني) (مجمع الأديان) تم افتتاح مركز بسيناء في مصر ثم تعددت الواجهات واللافتات والشعارات ومنها (الإبراهيمية)

 (الملة الإبراهيمية) (الديانة العالمية) ثم تبعها شعار (وحدة الكتب السماوية) وطبع (القرآن / التوراة / الإنجيل) في غلاف واحد وصاحب ذلك جملة من الممارسات والسلوكيات والتعبد المشترك في عدة مواقع وكان أول صلاة للأديان الثلاثة بقرية (أسيس) بإيطاليا 27/10/1986م صلاها البابا وكانت أول صلاة يؤم فيها كافر مسلما في تاريخ الإسلام.

ومنذ ذلك التاريخ الذي ذكره فضيلة الشيخ الراحل – رحمه الله – لم تتوقف محاولات القوم بل زادت ضراوة وكسبوا بعض المساحات وتحكموا في الكثير من المواقع الإعلامية والتربوية بسبب الضعف والتبعية السياسية من بعض الحكومات والأنظمة القائمة في المنطقة وبحجة مكافحة الإرهاب تم تحجيم العمل الإسلامي والتضييق عليه في مختلف الميادين وملاحقة الدعاة والعلماء وتغييب الكثير منهم من خلال الاعتقالات والسجون دون محاكمات حقيقية وعادلة والتدخل المباشر في صياغة المناهج الدراسية في عالمنا الإسلامي تحت إشراف الدوائر الغربية دون مقاومة تذكر ثم يتوج كل ذلك بفرض التطبيع مع الكيان الصهيوني وأدى ذلك إلى الاعتداءات المتكررة على المسجد الأقصى وانتهاك الحرمات فيه دون نكير رسمي من المنظمات والحكومات بما فيها المؤسسات الدينية الرسمية بل هي في صمت وتواطؤ وكل ذلك حصاد وحصيلة عقود من العمل المتواصل لفرض هذا الواقع الأليم على أمة الإسلام.

وقد ذكر فضيلة الشيخ بكر رحمه الله جملة من الآثار السالبة لعمليات الخلط والتلبيس على الإسلام والمسلمين في النقاط التالية:

1/ اقتحام العقبة وكسر حاجز الهيبة من المسلمين من وجه وكسر حاجز النفرة من الكافرين وتذويب مفاهيم الولاء والبراء.

2/ أن البابا قدم نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعا وأنه حامل رسالة (السلام العالمي) للبشرية.

3/ أن البابا اعتبر يوم 27/10/1986م عيدا لكل الأديان وأول من شهر يناير (هو يوم التآخي)

4/ اتخاذ نشيد يردده الجميع أسموه (نشيد الإله الواحد ربٌ وأب ٌ)

5/ عقد المؤتمرات والندوات والجمعيات التي تدعم وترعى هذه الفكرة.

6/ تجريد الإسلام والهوية المسلمة من طبيعتها بأن الإسلام خاتم وناسخ لما قبله والقرآن ناسخ لما قبله من الكتب.

 7/ إبراز رموز أهل الكفر وملله فمثلا (الصليب الاحمر) هو رمز للإحسان

و(داروين) هو رمز التطور و (كارل ماركس) هو رمز المساواة و (البابا) هو رمز السلام العالمي والاخاء الديني

8/ مشاركة المسلمين في هذه المناشط المخالفة لأحكام العقيدة والشريعة الاسلامية وهذا يؤدي الى التماهي مع كافة المظاهر والاحتفالات اليهودية والنصرانية وتطبيع العلاقات معهم.

ولئن كانت هذه بعض الآثار التي ذكرها الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله حتى لحظة صدور كتابه فقد تضاعفت هذه الآثار وشملت ميادين عديدة في حياة الأمة المسلمة ومن كان يعمل مع الأعداء خفية وعلى استحياء صار مجاهرا ومطبعا مع الصهاينة وقد تعاظم التشكيك والهجوم على مصادر التشريع في الأمة علانية من خلال الطعن في حجية السنة النبوية وجندت لذلك أقلام وقنوات مأجورة بحجة التجديد للخطاب الديني ومواكبة العصر.

وإن هذه الهجمة الشرسة على الإسلام تحتاج لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه في الدفاع عن حصون الإسلام وثوابته في كافة الميادين العلمية والعملية وعدم الاستسلام لأن هذا من أعظم أنواع الجهاد ولن يناله إلا أصحاب المقامات العليا الذين أمروا ببيان الحق والميثاق وعدم كتمانه وقد جاء في الحديث عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين “. رواه البيهقي / صححه الألباني

ونسأل الله تعالى الثبات على الأمر والعزيمة على الرشد

د. حسن سلمان

من د. حسن سلمان

باحث في الدراسات الشرعية والسياسية