لكل زمن تحدياته، ولكن لكل زمن رجاله، فرجال كل مرحلة يتميزون بشيئين لا بد من حصولهما في الرجل الذي يسعى إلى التغيير في هذه المرحلة الصعبة، وهما :

أولا: وجود رؤية شرعية وفقهية وفكرية حول مستجدات الأمور، ونحتاج إلى قوة في الرؤية حين تشتد الأزمات، ولهذا يكون وجود الرؤية ضرورة من ضرورات التغيير.

ثانيا: وجود حاسة سادسة لرجال التغيير في المراحل الصعبة، فلا ينفع في هذه المرحلة داعية طويل اللسان، فقير العقل والثقافة، وخاصة في المجال السياسي والدستوري.

هناك آية من كتاب الله في (سورة ص)، فيها النبأ اليقين في التعامل مع المتغيرات، وهي قوله تعالى (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار).

في الآية معاني ثلاثة:

أولا:

هناك بشر يمثلون القدوات في حياة البشر، فهم يثبتون حين تتغير العقول والمواقف، ويبقون منارات حين تتلون النفوس، فلا ثبات على المواقف، بل هناك تغيير بلا سقف، والغريب أن التغير سببه لا يعود إلى تطور فكري، ولكنه يبدو من السطح السياسي والفكري أنه يعود إلى أسباب نفسية واقتصادية.

إن البشر يحبون العدل، ولكنهم يريدون من يحقق لهم العدل في حياتهم، فالمثال شيء، والوصول إليه شيء آخر، فالرحلة الطويلة نحو الهدف، وفى الرحلة معنى دقيق: الإبتلاء، وفى الابتلاء معنى دقيق: التمايز، وفى التمايز: معنى أدق، وهو أن رجال النهاية لا يعرفون معنى التلون، ولكنهم يعرفون في بعض الأحيان المداراة، والمداراة ليست المداهنة (وَدُّوا لو تدهن فيدهنون).

من الناس من لا يفرق بين الرؤية الإستراتيجية، والرؤية التكتيكية، فالأولى تقترب إلى الثبات نوعا وكما، والثانية متغيرة حسب المكان والزمان، ولهذا تجد من لا يملك رؤية، يتغير استراتيجيا، ذلك لأنه ليس له مواقف إستراتيجية فكريا، فهو من الخطباء المؤثرين الذين يلعبون بعواطف البشر دون أن تكون لديهم قراءة عميقة في الحياة، أما صاحب الرؤية الإستراتيجية فلا يتغير بسرعة، بل لديه مشروعه الفكري الذى يدافع عنه بكل قوة.

ثانيا:

في الآية أمر آخر، وهو أن هؤلاء البشر المختارين للقيادة الروحية والفكرية والسياسية يمتازون بأن لديهم أدوات التغيير (أولى الأيدي)، فهم يستخدمون أدوات التغيير في الوقت المناسب، لديهم قوة البطش، ذلك لأن البطش يحتاج إلى اليد الباطشة، ولهذا فهم مستعدون للدفاع عن الأوطان والقيم، ولديهم اليد الحانية في رعاية الضعفاء والأيتام والفقراء، ولكن تحركهم منضبط، وعندهم تخصصات في الحياة، وليسوا من الهوامش، بل هم من العمق، لديهم حضور دائم في ملفات الحياة، ولا يغيبون عنها في لحظة.

ثالثا:

وجود رؤية واضحة عند هذه الفئة القيادية (القيادة الواعية)، وأكثر القيادات تتغير كما وكيفا لأسباب سياسية، ولكن القيادات الواعية تتطوّر، ولا تتغيّر، وهنا مكمن القوة في القيادة الواعية.

لدينا في العالم الإسلامي من يتغير من اليمين إلى اليسار، أو من اليسار إلى اليمين، وهذا النوع من التغيير مقبول، فهو تغيير أيديولوجي، ولكن المصيبة تكمن في التغيير الذي لا يحمل معنى في الفكر، ولكنه بحمل فقط معنى في الصورة، والسبب الأساسي فى ذلك هو غياب الرؤية عن القادة.

تقول المعادلة القرآنية:

التغيير الممكن يحتاج إلى: (وجود قيادة واعية + رؤية واضحة للواقع وتعقيداته + وجود أدوات وآليات)، ولكن مشكلة اليوم في العالم الإسلامي غياب تلك المعادلة كليا، أو جزئيا، ومن هنا نجد التخبط في مستوى القيادات، وليس فقط في مستوى القاعدة، بل في بعض الأحيان نجد أن القاعدة تتقدم على القيادات في مواقفها الهزيلة، وهي كثيرة.

رأينا في وقت سابق كيف سقط الدكتور كمال الهلباوي، ذلك الجبل الذي بقي عقودا يحارب لأجل الديمقراطية في مصر، والعدالة بمرجعية إسلامية، ولكنه سقط بلا حساب في حبال السيسي، وهذا كان غريبا من رجل عاش نصف حياته في الغربة بعيدا عن وطنه، يبحث الكرامة لأهله ووطنه، ولكنه ذهب إلى مربع الدكتاتورية، لأنه اختلف مع إخوانه في الفكر، فهذا يعتبر في رأيي سقوط أخلاقي قبل أن يكون سقوطا منهجيا، وفى وقت متأخر رأينا من كان في ميادين الثورة يدعو إلى التغيير والحريّة، ولكن فى لحظة الامتحان الأول، سقط بلا حساب، (عمرو خالد) نموذجا.

قد يكون الإنسان نجما في سماء الفكر، ينقل الأفكار من الكتب، ويجعل هذه الأفكار من لبنات أفكاره، ولكن بعد برهة من الزمان يتضح للناس بأن تلك الأفكار التي تبناها في مرحلة ما، هي أفكار من أناس آخرين (عائض القرني)، هكذا تتساقط الأوراق من الشجرة لتدلّ على عدم وجود قوة داخلية لهذه النفوس.

حمل الدكتور عدنان إبراهيم راية الحرية قبل الربيع العربي، ودعا إلى ثورة فكرية شاملة تبدأ من الداخل، أي من النفوس، وأعلن الحرب على معاوية بن أبى سفيان رضي الله عنه، ذلك لأنه أوقف العملية الدستورية للدولة الإسلامية، ونحن من جانبنا أكّدنا أننا معه فى جانب، ولكننا لم نكن معه في إخراجه لمعاوية من دائرة الإيمان والصحبة، فهذا ليس من العدل، ولكن ما الذي تغير حتى تغيّر الدكتور عدنان إبراهيم؟

فى الخليج العربي معركة وجودية

ذكرها الدكتور عبد الله النفيسي في مقابلات عدة، فذكر بأن الخليج سوف يواجه زلزالا مدمٌرا، وذكر كل ذلك قبل عقدين من الآن، والغريب، أن المفكٌر الفلسطيني عدنان إبراهيم ينسى بأن القضية الفلسطينية تدخل الآن فى فخ سياسي خطير لم يسبق لها في التاريخ.

تواجه القضية الزلزال المدمّر من خلال ترامب والمحمدين (محمد بن سلمان، محمد بن زايد)، فيلعب الأول دور المخطط، بينما يلعب المحمدان دور التنفيذ، ومع هذا يرى الدكتور عدنان إبراهيم بأن محمد بن سلمان لديه أحلام كبيرة، تجعل الأمة المسلمة تلعب دورا حضاريا فى هذه اللحظة القادمة.

تساءلت، كيف يسقط من يجعل الحرية قضيته فى هذا السقوط الأخلاقي؟

في متابعتي الدقيقة للتغييرات الكونية، رأيت العجب، رأيت من يبدأ، وهم كثيرون، ولكن الرجولة ليست في البداية، بل هي في النهاية، ورأيت كثيرين من محبي الوعظ ومحترفيه، ولكنى رأيتهم يتساقطون في لحظة الامتحان الصعب من أول أيامه.

إن ماركس، وهو ملحد بقي على فكرته حتى الموت، وهذا لا يعنى أنه كان ساكنا بلا حركة، بل كان يتطوّر في داخل مدرسته وفكره، وهكذا رأيت جلّ الغربيين، لديهم مشاريع فكرية، فهم في داخلها يتطورون، ولكنهم لا يتغيرون، بينما رأينا في العالم العربي والإسلامي من يتغير، ولا يتطور، أو من يسكن ولا يتطور، تلك هي أزمة العقل المسلم.

نحن نعيش في الزمن الصعب،

ولكنه ليس زمنا غير عادي، فهو زمن يتسم بالتغير الشديد، ولهذا يحتاج من المفكرين المسلمين المتابعة الدقيقة مع تثبيت البوصلة نحو الهدف، فالمشكلة قد تكون في تغيير البوصلة مع التغييرات الدقيقة، ومن هنا تشيع القضية، والفكرة، فلا معنى لعلم وفير لا يؤدى غالبا إلى الثبات على المبادئ، ومن هذا الباب دخل الحسين بن علي رضي الله عنهما في التاريخ، فهو رجل القيم، ومن هنا مرة أخرى بقي اسمه في صفحة التاريخ، اختار الفكرة دون المصلحة، ودخل الحسن رضي الله عنه في التاريخ مرة ثالثة، ذلك لأنه أنقذ الأمة، وتنازل عن حقه فى القيادة، ولم بتنازل عن أفكاره، فهو مع فكرة البيعة والعقد.

فى المرحلة القادمة سوف نرى نجوما تسقط من العلوّ، كما سوف نرى جبالا من الصخور تخرج من جماعات الشيخوخة،، ولكن الأمة في مجموعها تنتظر دوما الأفكار الملهمة، والمواقف العلمية الشجاعة، فلا معنى لعلم بلا أخلاق، كما أنه لا فائدة من صراخ المراهقين في اللحظة الحالية، هناك مرحلة اصطياف جديدة، دعاة مع الرسميين، وهم جنود الفتنة في الفكر السياسي، يجرون وراء الرز الخليجي، ودعاة مع القضية، وهم جنود اللحظة، يجرون وراء القضية حتى الموت.

من د. عبد الرحمن بشير

داعية ومفكر إسلامي، من جيبوتي