«قامت الدنيا لمنشور كتبته على الفيسبوك للدفاع عن الشيخ الشعراوي، مما سموا أنفسهم تنويرين وعلي رأسهم الدكتور خالد منتصر.

هاجمني ومن وراءه لكوني أستاذ فلسفة لا يصح أن أدافع عن شيخ أصولي كما يقولون عن الشعراوي.

أولا: أنا حر في رأيي الشخصي.

ثانيا: هل الفلسفة ضد الدين؟

ثالثا: هل التنوير عندهم تجاوز مبادئ الدين الحنيف.

رابعا: لن أرد لأني لم أدخل في جدل عقيم».

كان هذا ما كتبه الأستاذ الدكتور عماد عبد الرازق رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بني سويف.

وأقول: هل الدين يعادى الفلسفة ؟ وهل الدين في موقف العداء من الفلسفة؟

بداية:

إن موضوع الفلسفة العامة هو نفسه موضوع الدين، فإذا كانت الفلسفة تبحث في الإنسان والكون والإله،

فإن الدين أيضا يدور حول هذه القضايا، فهو يبين وجود وصفات الإله وعلاقته بخلقه، ويوضح طبيعة الإنسان،ويبين بدايته ونهايته ومصيره،

ويحدد لنا حقيقة الكون الذي نعيش فيه، بل إن موضوع الدين أشمل بكثير من موضوع الفلسفة،

إذ أنه يبحث في أمور كثيرة لم تبحث عنها الفلسفة، ومنها واجبات الإنسان نحو خالقه،

وتفاصيل مراحل ما بعد الموت،وغير ذلك من المسائل التي اختص بها الدين ولم تتطرق إليها عقول الفلاسفة.

لكن الفرق بين الدين والفلسفة يتمثل في أمور جوهرية وهى: منهج البحث:

فالفلسفة تعتمد على المنهج العقلي الحر، ولا شك أن لكل فيلسوف عقله الخاص وثقافته المعينة التي عالج من خلالها قضايا الفلسفة.

ومن هنا اختلف الفلاسفة وتناقضوا وتعارضوا ولم يتفقوا على حقيقة واحدة منذ ظهرت الفلسفة وإلى الآن.

فما ذكره أفلاطون نقضه أرسطو، وما أثبته أرسطو أنكره تلامذته. وهكذا كان تاريخ الفلسفة لا اتفاق فيه على شيء،

إذ الشأن في الفلسفة كالشأن في الإنتاج الفني، يحمل طابع الفردية والأصالة والإبداع.

أما الدين؛

فهو يعتمد على الوحي السماوي الصادق،وبما أن الوحي معصوم فلا مجال للخلاف.

وإذا كانت حقائق الفلسفة تعتمد على الظن والتخمين، فإن حقائق الدين تعتمد اليقين المطلق الذي لا يقبل الشك لأنه وحى العليم الخبير.

ويتبين لنا قصور العقل والفلسفة على وجه الخصوص في مجال الغيبيات مثل: الذات الإلهية ،والروح،والسمعيات،فهذه أمور لا يمكن الوصول إلي الحق فيها إلا من خلال الدين.

ومع كل هذا فلا غنى عن دراسة الفلسفة، لأنها أمر واقع يعيش معنا، ويغزو عقولنا رغما عنا ويشككنا في ديننا بلا إرادة منا.

ومن هنا كان من الضروري لنا أن ندرسها ونتعرف عليها لا لكى نعتنق ما فيها من عقائد وأفكار،

وإنما لكي نكشف زيفها، ونناقش الأسس التي قامت عليها،

وهذا هو منهج القرآن الكريم الذي تحدث عن سائر التيارات والعقائد الفاسدة التي كانت في عصر نزوله.

فقد تحدث عن أهل الكتاب، والوثنية،كما تحدث عن الدهريين، والطبيعيين،وعُباد الشمس، والكواكب، ومنكري الوحي، والنبوة،

وتلك في النهاية تيارات فلسفية. إذًا فالقرآن الكريم قد استوعب سائر الفلسفات الفكرية المنحرفة، ورد عليها وهدم حججها.

ومن هنا تبدو لنا أهمية دراسة الفلسفة بوضعها في ميزان العقيدة والدين،فهو الميزان الصادق. ومن هنا يقول ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم.

وأقول لمن هاجموا الأستاذ الدكتور عماد عبد الرازق المفتونون بالغرب:

لقد حاول أعداء التراث والدين أن يوهموا الناس بأن الأصالة نقيض للمعاصرة،

وأن كل من يتمسك بالتراث فهو ماضوي وظلامي ومنفصل عن الواقع،

مع أن الأصالة ليست نقيضا للمعاصرة، والمحافظة على التراث ليس نقيضا للتقدم،

فلكل أمة ماضيها الذي يؤسس شخصيتها ويبنى كيانها، فالماضي هو حضارة، وثقافة، وتراث مشترك،

هو الحصن الذي يمنع من تفكك الذات وانهيارها لحساب المعاصرة بلا ضابط ولا مرجعية.

الإيمان بالغيب والعلم

إننا نقول أنه لا تناقض بين أن يكون المسلم مؤمنا بالغيب في مجال العقائد، ومؤمنا بالعلم فى مجال الواقع المادي المشاهد،

فابن سينا وابن النفيس كانا مؤمنين بالغيب،

ولم يمنعهم إيمانهم من البحث العلمي والوصول إلى أعظم النظريات العلمية في عصرهم.

إن الذين يدعون إلى تجاوز التراث يقعون في تناقض صارخ دون أن يشعروا، إنهم يقولون :

إنه لا معاصرة ولا حداثة إلا بتقليد الغرب شبرا بشبر، وذراعا بذراع فى كل مراحل تطوره،لكنهم يرفضون الاقتداء به في المحافظة على أصالته وتراثه القديم.

يفترض هؤلاء الذين يدعوننا إلى ترك التراث إلى أن التجربة الأوربية هي التجربة الوحيدة ،

وأنها النموذج الذي ينبغي أن يحتذي به في التحديث والنهضة،

وبما أن أوروبا بدأت نهضتها بهدم تراثها الديني وأبعدت الدين عن مجال الحياة فإن نهضتنا مرهونة بذلك أيضا.

نقول لهؤلاء:

إن أوروبا ليست هي النموذج الوحيد للحداثة والتقدم، فهناك دول أخرى تقدمت ونهضت على الرغم من احتفاظها بتراثها ودينها وعاداتها وتقاليدها،

فاليابان على سبيل المثال اختلفت مسيرة التحديث فيها عن كل بلدان أوروبا وأمريكا، فالمحافظة على التراث الديني عندهم، واحترام عقيدة الشِنتو، والإخلاص للإمبراطور،

كل هذه الأشياء كانت عوامل أساسية في مسيرة العصرنة في اليابان.

بل إن حركة الحداثة في اليابان قد تمت ضمن دائرة المحافظة الشديدة على قوميتها، والتعصب البالغ للغتها الأم، وتقديسها لماضيها، والاحترام الشديد لمقدساتها وتراثها،

وهذا ما أقام عندها حصنا منيعا في وجه الشيوعية.

وبهذا يتأكد لنا مدى خطأ هؤلاء الذين يستخفون بتراثنا، ويعلقون نهضتنا على نسياننا لكتابنا وسنتنا والهجوم على رموزنا.

فهؤلاء هم اليابانيون متمسكون بعقيدتهم، ومع ذلك لم يكن هذا التمسك سببا لتأخرهم، ولا عائقا لتقدمهم.

فهل تكون عقيدتنا الإسلامية الصحيحة وتراثنا الإسلامي العظيم سببا لتأخرنا؟

إن الإجابة على هذا السؤال مرهونة بمدى الأمانة والموضوعية التي ينبغي أن يتحلى بها كل من يحاول الإجابة عليه من أعداء التراث المفتونون بالغرب،

فمصر محفوظة بحفظ الله والصالحين أمثال الشيخ الشعراوي… {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

من د. عبد الغنى الغريب

رئيس قسم العقيدة بجامعة الأزهر