د. علي السباعي

أولا: المرجعية.

المتأمل في الساحة يجد بلا عناء أنّ من القواسم المشتركة في تيارات الغلو أنّها تغلو في (مرجعياتها) وتضفي عليها من الخصائص ما ليس في غيرها، فهؤلاء يرون في (إمامهم) أنه مرجعية (التوحيد والجهاد) وأولئك يرون في (إمامهم) أنه مرجعية (الجماعات والسنة ومنهج السلف) أما هؤلاء فيرون في (إمامهم) أنه مرجعية في (القضايا العامة ومسائل السياسة والشأن العام). وجميع من ذكرنا يُضفون على (مرجعياتهم) من المناقب والفضائل والفهم والعُمق ما ليس في غيرهم.

بل غيرهم، في حسّ الأتباع، محروم من الفهم في القضايا سالفة الذكر ما لم يقف خلف من يعتقد أنه (إمام) تلك القضايا المشار إليها.

ومن عجائب غلو الأتباع في (متبوعهم)، أنهم لا يجرأون، إطلاقا، على مخالفة (أئمتهم) في تلك القضايا، قد يخالف في مسائل فقهية أو سلوكية أو نحو ذلك، أما إذا تكلم (إمامهم) في مسألة، وقال (فلان مرتد) أو (فلان مبتدع) أو فلان (مجرد متهم وليس محكوم عليه!).

فحتى لو كانت هذه الأحكام خاطئة على وجه اليقين، فلن يجرؤ أحد من الأتباع على تجاوز هذه الخطوط الحمراء.

وهذا من مؤشرات الغلو، إذ معلوم لكل مسلم، أنّ (كل ابن خطاء) و (كل يؤخذ من قوله ويُرد).

لكن منهج أهل الغلو غير ما هو مقرر عند أهل الاعتدال، والساحة مليئة بالأمثلة لمن يحسن أدنى درجات التأمل.

ثانيا: نسبة الصواب.

تيارات الغلو تعتقد في جميع خياراتها أنها صواب مُطلق، وتعتقد في خيارات غيرها خطأ مطلق، ولا أعني هنا في جميع الخيارات الدينية، إنما أعني الخيارات في القضايا سالفة الذكر، قضايا (التوحيد ـ منهج السلف ـ الشأن العام) كل تيار من هذه التيارات يرى جميع خياراته التي اتخذها، وسيتخذها، صوابا مطلقا، ولم نسمع من أحدهم أنه تراجع أو أعلن أنه أخطأ في هذه المسائل أو بعضها، مع أنّ واقعنا اليوم معقد ومتداخل مع الأمم الأخرى، أضف إلى ذلك أنه زمن فُرقة وضعف وشتات، وبُعد الناس عن العلم الشرعي، وغياب الشريعة من حياة الناس العامة، وكثرة الشبهات، والقنوات والمواقع التي تصد الناس عن دينهم، ونحو ذك.

إلا أنّ القوم مطمئنين تمام الاطمئنان إلى جميع اختياراتهم، وأنها صواب بنسبة 100% وخيارات غيرهم من العاملين في الساحة خطأ بنسبة 100%.

وهذه التصورات فيها شبه بمنهج الخوارج الأوائل، فقد كانوا يرون الإيمان لا (يتبعّض).

فإذا انتقض بعضه ذهب كله، فإذا شرب المسلم الخمر عندهم فقد حبط عمله وكفر بالله العظيم، فهم يرون الإيمان إما (100%) أو (0%) فقط. خلافا لمعتقد أهل السّنة.

ثالثا: الموقف من المخالف.

وبناء على ما ذكرنا في الفقرة السابقة، فإنّ تيارات الغلو ترى في مخالفيها من العاملين في الساحة، إما أنهم (مرتدين) أو (مبتدعة) أو (عملاء وخونة). وهذا شيء لن تجد عناء في رؤيته أذا تأملت الساحة بإنصاف وعقل!.

وهم بهذا على خطى الخوارج الأوائل، حيث كفّروا الأمة جمعاء إلا من سلك مسلكهم.

رابعا: النرجسية في المدح والذم.

اتخذ الضالون الأوائل = الخوارج علي بن أبي طالب أميرا لهم، ثم كفّروه و رأوه قد (خان) الله ورسوله، بمجرد (توهمهم!) أنه لم يحكم بما أنزل الله!، وحكّم الرجال في دين الله، وكذلك يفعل من يسير على نهجهم اليوم.

فيكون الرجل عند الغلاة مرضي عنه فيصبغون عليه كل الفضائل والمناقب (فرفعوا أبا الحسن المأربي إلى النجوم!) ولما خالفهم في مسألة قالوا عنه (ما قال مالك في الخمر!).

وكذلك فعل ويفعل تيار (التخوين) فيرفعون الرجل في الجوزاء إذا ما كان على نهجهم، وإذا خالفهم و(توهموا!) أنه خالف المبادئ، قالوا عنه (عميل خائن متاجر بدماء الشهداء!).

خامسا: اختلال ميزان الولاء والبراء.

 الفريق الأول قتل جميع (قادة أحرار الشام) في غداة واحدة، بينما بأسهم لم يكن شديد مع (بشار).

أما الفريق الثاني فقد قتل (الشيخ نادر) وحارب الدعاة والعلماء، بينما بينهم وبين عتاة الأرض من الطغاة صلة ومودة!،

أما الفريق الأخير فقد خوّن كل من شارك في (اتفاق الصخيرات) ورمى بالعمالة وبيع دماء الشهداء من له قدم صدق في (فبراير).

بينما انحازوا بكل قوة لمن يقول عن نفسه أنه (طافش!) ولم يُعرف عنه سابقة في فبراير، بل ذهب بهم الغلو إلى (طمس الأسئلة!) ولوي أعناق النصوص لصالح (الطافش!).

ومسلك الضالين الأوائل في اختلال ميزان الولاء والبراء ظاهر ومعروف، حيث (يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).

سادسا: يتخذ الغلاة عادة ستارا جميلا وشعارا براقا يستترون خلفه، كشعار (حب آل البيت) و (إن الحكم إلا لله) و(التوحيد والجهاد) و(منهج السلف) و(احترام علماء البلد) (1) و(الرجوع إلى المذهبية)..إلخ. والمتأمل في الشعارات السابقة يجدها جميلة وبراقة، إلا أنّ هذه الشعارات تختفي تحتها تيارات الغلو، قديما وحديثا.

هذه بعض المعالم التي يشترك فيها الغلاة الذين في الساحة.

إلا أنه جدير بالذكر، أنّ تيار (التكفير) قد اختفى من الساحة ظاهرا! نتيجة عوامل داخلية وخارجية لا يتسع المقام لذكرها، وأما بعض غلاة (التبديع) فقد هاجروا، سرّا وعلانية، إلى المظلة التي يستظل بها (غلاة التخوين!) بدعوى أنهم قد (اعتدلوا) وتركوا منهجهم القديم!.

وقبل أن أختم هذا المقال أود أن أقول، كنتُ قد كتبتُ رسالة بتاريخ 23 / 10 / 2020م إلى بعض من لهم تأثير في الساحة محذرا من تشكل (تيار التخوين) وبداية تكوينه، ومما ذكرته في الرسالة «المتابع للشأن الليبي، يلاحظ بلا عناء، أنّ هناك تيارا يتشكل أو تشكل في الساحة، والملاحظ أيضا أنّ هذا التيار يتعصب لبعض الآراء والقضايا ويعدّها من القضايا الوطنية، والثوابت غير قابلة للاجتهاد، ويوالي ويعادي من أجلها، ويُعامل من يخالفها معاملة الخائن لوطنه ودينه…» انتهى.

أما اليوم فهذا التيار قد علاه السفهاء والمهرجين والشعراء الشعبيين و«المنغلقين» وأصحاب الرؤية الأحادية، وصارت قضايا الشأن العام الكبرى يتناولها هؤلاء بالهزل واللعب والسخرية، وانتشرت في بعض صفوف المتدينين سوء الأخلاق والإسفاف والسطحية و (ألفاظ ومصطلحات) يترفع عنها أبناء «البيتيّة» فضلا عن «المشايخ والدعاة!».

وتقوم بين الفينة والأخرى معارك وصدامات بين تيارات الغلو، يحسبه الناظر من بعيد أنه صراع بين (الحق والباطل) إلا أنّ العاقل يراه صراع من أجل «انتصار للرأي أو الشيخ أو المنهج»…إلخ.

ولازالت بعض المعارك تدور رحاها ويتطاير غبارها إلى ساعة كتابة هذه الأسطر.

هذا واقع الساحة الدعوية اليوم، فالغلو له سطوة وظهور، وسيظل الحال هكذا إلى أن يستشعر أهل الاعتدال حجم ما آلت إليه الأمور، وينهضوا بكل قوة وشجاعة لمواجهة مد الغلو الذي يختفي تحت مظلات براقة وشعارات جذابة.

ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ دعوى احترام علماء البلد واتباع أقوالهم، دعوى غير دقيقة، فأنا أعرف عددا لا بأس به من العلماء لا يُقرون هؤلاء الغلاة ومنهجهم، حتى بعض أولئك العلماء الذين يضعون سيرهم الذاتية في صفحاتهم، وربما أعود لهذا الموضوع إن لزم الأمر.

ـ ملاحظة: التشبية بالخوارج لا يعني إطلاقا أنهم كالخوارج الأوائل، إنما هناك شبه بهم، وقد يصل بعضهم إلى الخوارج الأوائل.

من د. علي السباعي

كاتب وباحث أكاديمي ليبي