د. علي محمد عودة، متخصص في تاريخ الحروب الصليبية

درس تاريخي لمن يركن إلى الغرب والروس والمجوس.

قال الله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون).

سنة أنزلها الله تعالى في كتابه الكريم وأجراها على هذه الأمة. وستظل هذه السنة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وقد جرت هذه السنة في التاريخ الإسلامي مرات كثيرة، ليس بوسع باحث واحد أن يحصرها. وسأضرب هنا مثالا واحدا على جريان هذه السنة لتكون درسا لمن تحدثه نفسه اليوم بالركون إلى الغرب والروس والمجوس فيما يتعلق بالكارثة في سوريا.

ولن أذهب بعيدا بل سأضرب المثل من تاريخ سوريا نفسه.

بعد أقل من نصف قرن من وفاة صلاح الدين الأيوبي حدثت منازعات ومشاحنات وحروب بين ملوك بني أيوب في بلاد الشام ومصر أدت إلى ركون بعضهم إلى الصليبيين فجرت عليهم هذه السنة التي لا ترد ولا تتحول. انفرد الصالح أيوب (ابن الكامل محمد بن العادل شقيق صلاح الدين) بحكم مصر في أواخر سنة 637 هجرية. وقرر استعادة دمشق من عمه الصالح إسماعيل الملقب بأبي الخيش الذي انتزعها من الصالح أيوب غدرا. وهنا لم يجد أبو الخيش إسماعيل غضاضة في الاتصال بالصليبيين وطلب التحالف معهم ضد ابن أخيه صاحب مصر. ومن الطبيعي أن يرفض الصليبيون تقديم مساعدتهم لأبي الخيش إسماعيل بدون مقابل، ولذلك أعطاهم أبو الخيش صفد وقلعة الشقيف، وهونين، وتبنين، كما تنازل عن حقوق المسلمين في مناصفات صيدا وطبرية وبعض بلاد الساحل وذلك سنة 638 هجرية.

ولم يجد أبو الخيش حرجا حينما منح الصليبين هذه البلاد في الوقت الذي تنصل فيه بعض أتباعه من ذلك الجرم مثل نائبه على قلعة الشقيف ويدعى الحاج موسى الذي رفض أمر أبي الخيش بتسليمه للصليبين فرفض قائلا «والله لا جعلته في صحيفتي» فقبض أبو الخيش عليه وضربه ضربا مبرحا حتى قتله وصادر كل أمواله وممتلكاته غير أن حامية القلعة بزعامة رجل يدعى أحمد الشقيفي عصوا أمر أبي الخيش إسماعيل، وعندما اتضح لأبي الخيش حميتهم للمسلمين وانتصارهم للدين، خرج من دمشق بعسكره وحاصر الشقيف حتى أخذه منهم بعد أن طلبوا منه الأمان على أنفسهم قائلين «أنت أمرتنا أن نسلمه للفرنج أما نحن فما يحل لنا أن نسلمه لهم ونسلمه إليك تفعل فيه ماتختار» فسلمه أبو الخيش للصليبين وظل بأيديهم أكثر من عقدين من الزمان حتى استرده الظاهر بيبيرس.

وتسلم الصليبيون من أبي الخيش صفد التي كانت خرابا منذ زمن الحملة الصليبية الخامسة فقرروا بنائها وجمعوا ألف أسير مسلم كانوا في سجونهم وسخروهم للعمل في بناء صفد وكان يحرسهم 200 رجل من الصليبين فاتفق الأسرى فيما بينهم على مهاجمة حراسهم وتجريدهم من أسلحتهم والاستيلاء على صفد.

ولضمان نجاح خطتهم أرسلوا إلى والي عجلون ليبعث إليهم من يتسلم صفد إذا تخلصوا من حراسهم فأرسل والي عجلون برسالة الأسرى إلى سيده الناصر داود صاحب الكرك الذي أرسلها بدوره إلى عمه أبي الخيش إسماعيل الذي أرسل رسالة الأسرى إلى الصليبين فجاء الصليبيون إلى صفد وقبضوا على الأسرى ودخلوا بهم عكا «فذبحوهم عن آخرهم» ثم واصل الصليبيون بناء صفد بمساعدة أبي الخيش إسماعيل الذي ارتكب بعمله هذا جرما شنيعا يتنافى وكل القيم الخلقية، ناهيك عن خيانة الدين والوطن والشرف.

وسمح أبو الخيش إسماعيل للصليبيين بالدخول إلى دمشق لشراء السلاح، فتحرج تجار السلاح من بيع الأسلحة للفرنج واستفتوا الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام فأفتى بتحريم بيعهم السلاح قائلا «إنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين»

ولقد أثارت أفعال أبي الخيش إسماعيل الرأي العالم الإسلامي في بلاد الشام؛ وقطع الشيخ عبد العزيز بن عبد السلام خطيب جامع دمشق الدعاء لأبي الخيش إسماعيل وندد به وأكثر من التشنيع عليه واستبدله بذلك الدعاء الذي يقوله الخطباء إلى اليوم«اللهم ابرم لهذه الأمة إبرام رشد تعز فيه أوليائك وتذل فيه أعدائك ويعمل فيه بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك» والناس يبتهلون ورائه بالدعاء. فاعتقل أبو الخيش الشيخ عبد العزيز وأخذه إلى قرب القدس حيث اجتمع مع زعماء الصليبين وظل الشيخ معتقلا بجوار الخيمة يقرأ القرآن فقال أبو الخيش لزعماء الصليبين أتسمعون هذا الذي يقرأ القرآن؟ قالوا نعم، قال: هذا أكبر قسوس المسلمين وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين فقال زعماء الصليبين “لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها” …

ووصلت أثناء ذلك حملة صليبية من فرنسا نجدة للصليبيين في بلاد الشام فأرسل الصالح إسماعيل جيشا للانضمام للصليبيين والزحف على مصر.

ولما علم الصالح أيوب صاحب مصر أرسل جيشه للتصدي لذلك الحلف ولما التقى الجمعان انضم عسكر الشام إلى قوات الصالح أيوب ومالوا على الصليبين وهزموهم وأسروا عددا كبيرا منهم.

ولم يتعظ أبو الخيش من تلك الهزيمة فجند قوات جديدة وجدد التحالف مع الصليبين واستمال إليه المنصور صاحب حمص والناصر داود صاحب الكرك.

ولما علم الصالح أيوب بذلك أرسل إلى الخوارزمية «وهم بقايا جيش الدولة الخوارزمية التي انهارت أمام المغول» وكانوا زهاء 10000 فارس.

وقرر أبو الخيش إسماعيل بالاتفاق مع ابن أخيه الناصر داود تسليم بيت المقدس بكامله إلى الصليبين وكذلك المسجد الأقصى وقبة الصخرة كما أعطاهم قلعة كوكب، ودخل الصليبيون بيت المقدس ولم يكتف أبو الخيش بذلك بل وعد الصليبين بجزء من ديار مصر إذا فتحوها. وأخذ الصليبيون في حشد قواتهم لتنفيذ اتفاقهم مع أبي الخيش إسماعيل والناصر داود وقد حكى المؤرخ المعاصر ابن واصل كيف انتهك الصليبيون حرمة المقدسات الإسلامية في القدس حين مر بها في آواخر سنة 641هجرية وهو في طريقه إلى مصر فقال «ودخلت البيت المقدس ورأيت الرهبان والقسوس على الصخرة المقدسة وعليها قناني الخمر برسم القربان ودخلت الجامع الأقصى وفيه جرس معلق وأبطل بالمسجد الآذان والإقامة وأعلن فيه بالكفر».

ولما وصلت دعوة الصالح أيوب إلى حلفائه الخوارزمية بالجزيرة الفراتية التي يدعوهم فيها لمناصرته عبروا الفرات إلى بلاد الشام وساروا حتى وصلوا البيت المقدس واقتحموه على الصليبين فقتلوا كل من وجدوه بها منهم ثم دخلوا كنيسة القيامة ونهبوها وهدموا المقبرة التي يعتقد النصارى أنها مقبرة المسيح وطهروا المسجد الأقصى من براثن الصليبين وطاردوا الفارين من الصليبين إلى قرب يافا ولم ينج منهم سوى 300 شخص فقط.

وباسترداد الخوارزمية لبيت المقدس أصبح في أيدي المسلمين ولم يقدر لجيش نصراني الوصول إليه حتى الحرب العالمية الأولى. وتوجه الخوارزمية إلى غزة وراسلوا الصالح أيوب يخبرونه بقدومهم لنصرته وطلبوا منه إرسال عسكر مصر إليهم لقتال أعدائه جميعا فجهز الصالح أيوب جيش مصر بقيادة مملوكه ركن الدين بيبرس فوصل إلى غزة وانضم إلى الخوارزمية.

أما أبو الخيش إسماعيل فقد استدعى المنصور صاحب حمص وجعله قائدا عاما على عساكره ولما اجتمع المنصور مع أبي الخيش في دمشق اتفقا على تسليم كل البلاد التي تقع غرب نهر الأردن للصليبين إذا نجحوا في الاستيلاء على مصر بشرط أن يمضي الصليبيون بكل جيوشهم معهما إلى مصر.

وقاد المنصور العساكر من دمشق ومر بعكا ووضع معهم الاتفاق على غزو مصر بكل قواتهم وأن يكون لهم جزء من الديار المصرية واتحد المنصور بقواته مع قوات الصليبين وكان الصليبيون يكونون ميمنة الجيش بينما المنصور بعساكره وعساكر دمشق وكتيبة من حلب في القلب أما الميسرة فكانت من نصيب عساكر الناصر داود صاحب الكرك. وكانت أعلام الصليبين ترفرف فوق رؤوس المنصور وأصحابه وفي أعلى سواري الأعلام شارات الصليب،ومعهم الرهبان والقسيسين يدورون على كتائب العساكر الشامية يصلبون عليهم ويباركونهم وبأيديهم كاسات الخمر يسقونهم.

والتقى الجمعان شمال شرق غزة يوم الاثنين 12جمادى الأولى642هجرية ودارت معركة حامية الوطيس وثبت الخوارزمية في ميدان القتال وأنزلوا الهزيمة الساحقة بالقوات الشامية وانهزم المنصور صاحب حمص وعندئذ أحاطت الخوارزمية بالصليبين وحصدوهم بسيوفهم وأسروهم ولم ينج منهم إلا القليل وكان عدد القتلى من الصليبين وحلفائهم من الشاميين كما ذكر المؤرخ المعاصر سبط بن الجوزي الذي شاهدهم بنفسه فقال، ولقد أصبحت ثاني يوم الكسرة إلى غزة فوجدت الناس يعدون القتلى بالقصب فقالوا «هم زيادة على ثلاثين ألفا» وقد أيده في هذا التقدير كثير من المؤرخين.

وغنم الخوارزمية وعسكر مصر أثقال الشاميين وأسلحتهم وأموال وخزائن المنصور صاحب حمص الذي طلب بعد فراره شاشا يتعمم به فلم يجده.

وهنا عاد له وعيه فتذكر هذه السنة التي وضعها الله جل وعلا لهذه الأمة وعبر عن مضمونها بقوله «قد علمت أن لما سرنا تحت صلبان الفرنج أنى لا نفلح» لقد أدرك هذه السنة بعد فوات الأوان وحاول التكفير عنها بالانضمام إلى الصالح أيوب وساعده في استرداد معظم بلاد الشام التي كانت بأيدي أولئك الحكام.

أما الصالح إسماعيل فلم يؤثر عنه أنه ندم على فعلته وقد أسره مماليك الصالح أيوب في سنة 648هجرية وأعدموه في القاهرة.

وقد جرت هذه السنة الربانية في بلاد الشام مرات عديدة وقد وضحنا في هذا المقال واحدة منها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

د. علي محمد عودة

من د. علي محمد عودة

أستاذ متخصص في تاريخ الحروب الصليبية، وتاريخ العدوان الفكري الغربي على الإسلام