د. محمد علي المصري

ولقد تعلمنا في الفقه من أئمتنا سادة العالم في الفكر والعلم والحكمة، و(الحرية) في الاجتهاد، وعدم التقليد، وأن الحق أحق بالاتباع….

فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنه، لم يكن متابعا لمنهجية أباه عمر ابن الخطاب في الفقه، بل كان ألصق منهجيا بزيد بن ثابت، ومدار علم أهل المدينة عليهما.. ومنه مذهب الإمام مالك الذي توج هذا الاتجاه وهذا الأصل، فهو مذهب (أثري) يعتمد على ما استقر عند أهل مدينة رسول الله من عمل، ولا يجاوزه غالبًا.

بينما كان عبد الله بن مسعود هو الأقرب والألصق بمنهجية عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الفقه، فكان يفتي بفتياه، ويحررها، ويسير على أصولها ودربها، حتى إن فقه أهل العراق ينسب إلى عبد الله مسعود، عن عمر ابن الخطاب، وتظهر فيه المسحة العقلية وربما المقاصدية التي يظهر أن الفقه الحنفي يتميز بها.

فظهرت بهذا مدرستان كبيرتان في الفقه في تلك الفترة، مدرسة أهل الحديث في المدينة، ومدرسة أهل الرأي في العراق، والأولى منسوبة للولد، والثانية منسوبة للوالد!!

استطراد.. هذا بالطبع قبل ظهور الإمام الشافعي رضي الله عنه الذي طلب العلم في مكة بعد أن نقلته أمه من غزة لئلا يضيع نسبه، فحصل على علم أهل مكة الذي كان ينسب إلى عبد الله بن عباس رضي الله عمهما، فانتقل إلى المدينة فحصل علم مالك رحمه الله الذي ينسب إلى ابن عمر وزيد بن ثابت، ثم انتقل إلى العرق، فاحتك بأهله، وناظر فقهائه، فأخذ ما لديهم من علم أهل الرأي المنسوب إلى عبد الله بن مسعود، عن عمر بن الخطاب.. وكانت خاتمة الخير الإمام أحمد رحمه الله الذي التقى بالشافعي رحمهما الله، فكان درة التاج، ولبنة البناء، فاجتمعت لديه روافد العلم والفقه، فتميز مذهبه وترجح أصله.. رحم الله أئمتنا جميعا، وجعلنا من السائرين على دربهم..

عودة..

هكذا.. يكون الحق في نظر طالب العلم والباحث، دين الله تبارك وتعالى هو المقدم، والحق هو المهيمن، فما ذكرناه مما سبق يؤكد في جانبه الإيجابي استقرار هذه المنهجية من سلف لخلف، بل حتى في جانبه السلبي، فهذا علي ابن المديني لم سئل عن أباه في الحديث، فقال: سلو عنه غيري! فقالوا: إنما نسألك أنت! فقال: هذا دين الله، أبي ضعيف!!

إذا فكلا الجانبين الاختلاف المنهجي، وقول الحق في دين الله تبارك وتعالى سمة لأهل العلم يتوارثونها كابرا عن كابر.

ولعلك تقول.. هذا أمر قد مضى، وزمان قد انتهى!

أقول لك.. بل لم ينته، الخير باق في الأمة، ونواتها أهل العلم والحديث، وحراس دينه.

فنموذج ذكره أخونا الحبيب سيف المسلم سدده الله عنه وعن والده العابد الزاهد الشيخ أبي ذر القلموني أطال الله بقائه ومتع به، وكيف اختلف منهجه عن منهج أبيه، وفي كليهما خير إن شاء الله، وكيف أنه أقرب للشيخ فوزي السعيد والشيخ محمد عبد المقصود ودرستهما ومنهجهما الرائق، وكيف مع حبه واحترامه لأبيه، وطاعته إياه لم يمنعه ذلك من الاختلاف المنهجي بينهما.

وذكرنا هذا بسلفهم، فابن عمر ينشر منهج زيد ابن ثابت، لا منهج أبيه، بينما ينشر ابن مسعود منهج عمر ويفتي بفتياه.

علموا الدنيا أن دينكم يسع الاختلاف العلمي والمنهجي المقبول، وعلموهم أنكم تعلمون معنى الحرية الحقيقية المنضبطة بدين الله تبارك وتعالى، وأن البيت الواحد منذ ظهر هذا الدين وإلى يومنا هذا يسع اختلافا منهجيا (صحيا) بين أفراده أهل العلم وطلبة العلم والباحثين…

قولوا للعالمانيين.. والله لستم على شيء فيما تزعمونه، فأنتم لا تعرفون معنى الخلاف والاختلاف واحترام الآخر، وقبول الآخر… الخ، فاجلسوا تحت أقدام سادتكم لتتعلموا منهم هذه المصطلحات (عمليًّا)…

قولوا للصوفية…. قد أزريتم بدين الله تبارك وتعالى وزعمتم في اتباعكم لسادتكم وكبرائكم، ومنافحتكم عنهم في كل حق وباطل أنكم قزمتومهم، وخالفتم منهجهم إن كان حقًّا، واتبعتموهم فيما يجب مخالفتهم فيه إن كان منهجهم باطلاً.

فالله الله في العلم والأدب.. والدين!