د. محمد القاسم المنسي

رمضان والثقافة الإسلامية

يعد رمضان فرصة ذهبية لالتقاط الأنفاس.. وترتيب أوضاع النفس.. واستعادة الوعي المفقود.. وإحياء الوجود الإنساني الحقيقي.. واكتشاف القدرات الكامنة في الأعماق.. في الأيام شديدة الحرارة قبل رمضان بيوم واحد كان لسان الحال يقول: كيف سنصوم في هذا الحر الشديد الذي تجاوزال50 درجة؟

لكن بعد أول يوم اكتشف الإنسان انه قادر علي تحمل الحرارة.. وتحمل العطش..وتحمل الصداع الخفيف. وتحمل آلام الفقد والحرمان..

والمفاجأة أنه تحمل كل ذلك بدون سخط.. بدون غضب.. بدون احتجاج..لقد كان قبل رمضان يبادر بالاحتجاج إذا تأخر الطعام أو تأخر فنجان القهوة أو الشاي.. أو إذا فقد شيئا مما اعتاده في حياته..فماذا حدث؟ كيف استطاع اليوم أن يتحمل ما لم يكن يتحمله بالأمس؟

كيف استطاع أن ينخلع من عاداته المقدسة في كل صباح أو مساء؟ كيف تحكم في رغباته، وسيطر علي احتياجاته.. إنه يشعر بالعطش.. والماء بين يديه.. يستطيع أن يمد يده إليه لكنه لا يفعل ولسان حاله يقول مع عمر الخيام:

يا رب هل يرضيك هذا الظمأ..

والماء ينساب أمامي زلالا.؟!.

تري ما الذي جعله يتقبل «طواعية» أن يتحمل العطش والحرمان من أبسط الأمور (شربة ماء)؟ لقد قيل لأحد الملوك ماذا تفعل لو احتجت شربة ماء قال: أبيع نصف ملكي.. إذن لا شيء يقنع الإنسان بالتخلي عن شربة الماء إلا صوت الله في أعماقه.

إن يقينه بالله فقط هو الذي جعله يتنازل..وصدق الله إذ يقول: (… إلا الصوم فانه لي وأنا أجزي به).. وليس المقصود أن يكون الصيام فقط لله.. وإنما يكون الصيام بداية الطريق للوصول إلي الله..

وبهذا يعيد رمضان التوازن المفقود لحياة الإنسان الذي أغرقته المدنية المعاصرة بفنونها المختلفة.. في الدعاية والإغراء.. في مطالبها الحسية حتى كادت أن تقتل روحه وإنسانيته.. وهذه احدي منح الإسلام علي الإنسانية في زمن طغت فيه المادية علي كل شيء.. وهنا يصير من حقنا أن نقول: لو لم يكن عندنا رمضان لسعينا إلى البحث عنه ولوجدناه.. لأن وجودنا الإنساني -في هذا العصر- لن يتحقق بدون رمضان…!

رمضان وثقافة الاستهلاك!!

عندما نتأمل سلوكنا قبل رمضان نري كيف تمتلئ المتاجر بالسلع وكيف تكون الأسواق مزدحمة والإقبال علي الشراء بمعدلات غير مسبوقة.. والاستعدادات الإعلامية علي قدم وساق.. وفي كل عام تزداد السوق الإعلامية شراسة لمحاصرة المسلم في ليله ونهاره.. وصومه وإفطاره.

                           -1-

ولعالم النفس الشهير اريك فروم (الأوربي-الأمريكي.. ت1979م)، رؤية محددة في فهم حقيقة العالم الذي نعيش فيه، ملخصها: أن العالم يتجاذبه أسلوبان في الوجود وطريقة الحياة.. يتصارعان من أجل الفوز بالنفس البشرية..

فالأسلوب الأول وهو المهيمن في الوقت الحاضر هو أسلوب التملك الذي ينصب ويركز علي جانب التملك المادي والقوة المادية..

آما الأسلوب الثاني وهو المقابل البديل فهو أسلوب الكينونة الذي يعتمد علي القيم الإنسانية من الحب والخير والعطاء والتسامح والإيثار.. ومن المثير حقا أن الأسلوب التملكي سوف يدفع العالم من الناحية البيئية والنفسية إلى حافة الهاوية..

والأسلوب الثاني فهو الذي سيجنب الإنسانية الوقوع في الكارثة.. نتملك أو نكون.. هذا هو السؤال.. وبدورنا نتساءل: أين يقع رمضان من هذين الأسلوبين؟

                           -2-

 وبالنظر إلي السلوك المشار إليه في بداية المقال نجده كله يصب في الأسلوب الأول حيث يكون شعار الإنسان: أنا موجود بقدر ما أملك وأستهلك.. وفي ظل هذا الجو المادي يأخذنا رمضان إلى أجواء روحية ونفسية من الحب والخير والعطاء والسكينة..

ومن هنا نفهم لماذا كان رسول الله -صل الله عليه وسلم -أجود بالخير من الريح المرسلة وكان أجود ما يكون في رمضان..وذلك في توجيه واضح للأسلوب الذي يقابل به الإسلام هذه النزعة المادية وهو أسلوب: أنا موجود بقدر ما أتصدق وأعطي وأجود بكل ما استطيع..

فالسعادة لا يصنعها التملك وإنما يصنعها الكينونة.. ونستطيع أن نقول بعد ذلك: كم نحن بحاجة إلى رمضان حتى نتجنب الوقوع في الكارثة.

                            -3 –

ومن المعلوم أن الثقافة الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة تدعو إلي التوسط والاعتدال في كافة شئون الحياة وخاصة في رمضان، ومن ثم فإن رمضان فرصة للتدرب علي الإنفاق  والاستهلاك المعتدل تحقيقا لمقاصد الصيام وأهدافه.

رمضان وثقافة الرحمة

الرحمة -في الثقافة الإسلامية- هي تاج الأخلاق وجوهرها.. قال ابن القيم: (كل مسالة خرجت من الرحمة إلى ضدها فليست من الشريعة وان أدخلت فيها بالتأويل) أي بالاجتهاد.. ومعني ذلك أن أي حكم فقهي في الأحكام الفرعية يدخل الناس في العنت والحرج والعذاب يكون حكما باطلا شرعا لأنه في هذه الحالة صار متعارضا مع أصل كلي من أصول الشريعة وهو أصل الرحمة.

                               -1-

وتدور مادة (ر ح م) حول معاني الرقة والعطف والرأفة، وتميز اللغة العربية في هذه المادة بين ثلاث كلمات : الرحمة والمرحمة والتراحم، فالرحمة تطلب من طرف واحد (ارحموا من في الأرض) والمرحمة شعور يفيض ولا يحتاج إلى طلب أو توصية من احد، والتراحم تبادل ومشاركة (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم…) وهذا يصور طبيعة الرحمة في المجتمع الإسلامي: إنها رحمة تكليف ورحمة طبع ورحمة مشاركة..

                           -2-

 إن الرحمة ليست فقط قيمة أخلاقية وإنما هي خطة بناء وإعداد، وأداة للإدارة والشئون الاجتماعية، ومنهج للسلوك اليومي يمارسه الفرد المسلم في بيته وعمله والطريق الذي يسلكه.. والحال التي يكون عليها من رضا أو غضب.. من فقر أو غني.. من قوة أو ضعف.. إنه يدور معها حيثما كان ومع أي إنسان.. إنها عنوان المسلم : بها يعرف وبها يستدل عليه، تغيب إذا غاب وتحضر إذا حضر..

وعندما يأتي رمضان في العشر الأول منه فانه يذكر الناس بضرورة العودة الي حالة الرحمة والمرحمة والتراحم في مواجهة حالة القسوة والعنف والتناحر ليعيد من خلالها تشكيل وبناء علاقات فردية واجتماعية جديدة، ينتقل فيها البشر من حالة التناحر الي التنافس، ومن التنافس إلى التعارف ومن التعارف إلى التراحم.

                           -3 –

ولان مساحة الرحمة واسعة جدا تستوعب كل أعمال الحياة فان الأمر يتطلب إعادة النظر في البرامج والنظم التعليمية والإعلامية لتحديد دورها في بناء ثقافة الرحمة في جميع المراحل العمرية وجميع المستويات الاجتماعية كي تعود علامة ظاهرة من علامات المجتمع الإسلامي.. وهذا يتطلب تجديد لغة الخطاب الديني والثقافي بما يجسد هذه الثقافة ويحولها إلى عمل مؤسسي يتبني الحاجات الإنسانية ويدافع عنها ويحشد كل الجهود من أجلها.

رمضان بين ثقافتين

                                          -1-

الثقافة هي الطريقة التي يعيش بها مجتمع ما ويتميز بها عن غيره من المجتمعات.. ويكتسب الإنسان الثقافة من المجتمع الذي يعيش فيه منذ صغره.. ومن خصائص الثقافة أنها في تغير مستمر.. وعلي الرغم من بقاء المجتمع في المكان نفسه..فان الثقافات تتوالي عليه لأسباب متعددة..من هنا تتغير ثقافة المجتمعات باستمرار سواء أكانت مجتمعات بدائية ام متقدمة والفارق بينها في بطء التغير وسرعته..

                                        -2-

وعلي الرغم من أن شهر رمضان يعد صيامه أحد أركان الإسلام.. فإنه أصبح احد مفردات الواقع الثقافي العربي والإسلامي بالإضافة إلى العديد من المظاهر الأخرى التي تميز المجتمعات الإسلامية عن غيرها.. ولكي نعرف كيف تعامل المسلمون مع رمضان (علي انه جزء من الدين وفي الوقت نفسه جزء من الثقافة المجتمعية) نحتاج إلى أن نميز بين عهدين في تاريخ المسلمين:

الأول: ما قبل ظهور وسائل الإعلام (إذاعة وتليفزيون ونت…)

الثاني: ما بعد ظهور هذه الوسائل..

في العهد الأول كان رمضان صورة حقيقية تعبر عن المفاهيم الإسلامية الصحيحة حيث كان الدين غاية وليس وسيلة لأهداف أخرى..

كان امرأ فطريا بسيطا حيث ينفعل القلب بكلام الله ورسوله فيوجه العقل ويحرك السلوك إلى الخير والبناء والتعمير..

كان رمضان رمزا للنقاء الروحي.. وكان الناس اقرب إلى الفطرة وكان الاعتدال في كل شيء سمة المرحلة (بما في ذلك الاعتدال في الإنفاق) وكان هناك زهد حقيقي وتدين فطري تلمسه بأقل مجهود في كل جوانب الحياة..

أما في العهد الثاني (ما بعد ظهور وسائل الإعلام) فقد تغير الأمر وبدأت الصورة الحقيقية لرمضان تختفي تدريجيا وبدأت صورة أخرى (مصطنعة)تحل محلها..

فقد بدأت الإذاعة تبث برامج دينية عن رمضان ثم ما لبث أن تطور الأمر إلى برامج ثقافية..لكن الحال اختلف مع التليفزيون حيث اخذ حرية أكثر في التعامل مع رمضان (لاحظ مثلا فوازير رمضان!) وتم اختيار شهر رمضان لعرض أفضل الأعمال الدرامية.. حتى وصل الأمر إلى أن يكون رمضان سباقا وسوقا كبيرة لعرض هذه الأعمال..

باختصار تم التعامل مع رمضان باعتباره موسما تجاريا يحاول كل طرف أن يستغله لصالحه.. ولم تسلم الأسرة المصرية من هذا التغيير الذي حدث فتغير معه كثير من عاداتها الصحية والغذائية والاجتماعية إلى ما هو أسوأ بطبيعة الحال.

                                        -3-

وهكذا تغيرت الثقافة وتغيرت معها صورة رمضان، والمؤلم في الأمر أن الصورة التي يصنعها أغلب ما يعرض في وسائل الإعلام في شهر رمضان، لا تصب في خدمة قضايا الوطن ولا تسهم في تقديم الحلول لمشكلاته..

فهل حان الوقت لكي نراجع أنفسنا، ويستعيد الإعلام دوره الهام في البناء والتعمير وخدمة قضايا الوطن ؟؟

د. محمد قاسم المنسي

من د. محمد قاسم المنسي

أستاذ الشريعة الاسلامية، ووكيل كلية دار العلوم السابق بجامعة القاهرة