أشعر باستغراب شديد ونحن فى عصر يسهل جدا فيه العثور على الحقائق العلمية والمعرفة السياسية أن تجد البعض يكرر مقولة الحرب العالمية الثالثة متناسيا حقائق تاريخية وشواهد تؤكد أن أمر حدوث حرب عالمية غير وارد تماما.

لن تقوم أي دول في العالم وعلى رأسها أمريكا ودول أوروبا بالدعم العسكري المباشر لأوكرانيا بل ستكتفي جميع الدول بالمساعدات المادية أو حتى إرسال الأموال بالبيتكوين والإيثريوم, ولنضرب مثال على ذلك قيام ألمانيا بإرسال5000 خوذة إلى أوكرانيا, أو أن يعلن الملياردير الأميركي، إيلون ماسك، تزويد أوكرانيا بخدمة «ستارلينك» للاتصالات عبر الأقمار الصناعية عقب طلب من وزير التحول الرقمي في أوكرانيا، ميخائيل فيدوروف، وستارلينك هي خدمة إنترنت عالي السرعة عبر الأقمار الصناعية تزودها شركة «سبيس إكس» التي يملكها إيلون ماسك.

بعض أسباب الغزو الروسي الحالي

ولكي نعلل ما سبق علينا أن نتطرق للقليل جدا من الحقائق التاريخية والتلميح لبعض أسباب الغزو الروسي الحالي، وبداية فإن روسيا تستشعر خطرًا على وجودها،

والمسألة بالنسبة لها هي مسألة حياة أو موت،

وبوتن يعتقد أنه في حال لم يحتل أوكرانيا أو يُخضعها لسيطرته، فإن روسيا ستتعرض للغزو في المستقبل القريب أو البعيد.

قد تعتقد أن أحدًا لا يفكر بغزو روسيا، وهذا صحيح حاليًا، لكن الدول الكبرى تُفكر حتى 100 عامًا قادمة،

ومن هذا المنظور يمكن أن نرى مخاوف بوتن بشكل أوضح لو أخذنا نظرة أبعد واطّلعنا على جغرافية روسيا وتاريخها.

روسيا تعرضت عدة مرات للغزو أو محاولات الغزو، سواء من البولونيين في العام 1605

أو من السويد في العام 1708 أو الفرنسيين أيام نابليون في العام 1812 ومرتين من الألمان خلال الحربين العالميتين.

في الواقع لو أحصيت عدد مرات الغزو التي تعرضت لها روسيا منذ حملة نابليون في العام 1812 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية،

سترى أن روسيا تعرضت للهجوم ما متوسطه مرةً كل 33 عامًا!

الحرب كل 33 عامًا على دولة هو رقم ليس بالهين،

وبالتالي فإن روسيا ترى بأن فترة (عدم الحرب) التي مرت بها منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية هي الاستثناء وليست القاعدة وبأن مزيدًا من الاعتداءات قد تأتي في المستقبل.

الآن هل لاحظت شيئًا بالنسبة لجميع محاولات الغزو التي تعرضت لها روسيا؟

الشيء المشترك هو أنها جميعها جاءت من الحدود الغربية لروسيا.

مع أن روسيا هي بلاد شاسعة تحدها دول عديدة من الشرق والجنوب كالصين ومنغوليا وكازاخستان وكوريا الشمالية وجورجيا وغيرها.

لكن جميع تلك الدول تفصلها حدود طبيعية صعبة وشاسعة من الجبال أو الثلوج بعيدة جدًا عن العمق الروسي،

وهي غير مأهولة بالسكان وليس فيها ما يمكن احتلاله أو الاستفادة منه، وتتطلب جيوشًا ضخمة بخطوط إمداد طويلة جدًا.

هذه الحدود الطبيعية نجحت في حماية روسيا من الغزو من حدودها الشرقية والجنوبية إلا من بعض هجمات المغول في الماضي البعيد.

المهم نعود إلى العام 1949 حيث تأسس حلف الناتو لمجابهة الاتحاد السوفيتي،

وقد رد الاتحاد السوفيتي بتأسيس حلف وارسو الذي ضم دولًا حليفة لروسيا لكن الحلف انهار مع انهيار جدار برلين في العام 1989 وتفكك الاتحاد السوفيتي في ديسمبر 1991.

ورغم الانهيار السوفيتي بقي حلف الناتو قائمًا

وشاهدت روسيا بيأس كيف بدأت الدول التي كانت تابعة لمظلّتها تنضم إلى الناتو واحدةً تلو الأخرى،

مثل جمهورية التشيك، بولونيا، بلغاريا، إستونيا، لاتفيا، ليتوانيا، رومانيا، سلوفاكيا، وألبانيا.

روسيا تقول أن الناتو وعدها بأن هذه الدول لن تنضم إليه، وهو ما ينفيه الناتو.

بحلول عام 2004 أصبحت جميع الدول التي كانت يومًا في حلف وارسو،

إما عضوًا في الناتو أو في الاتحاد الأوروبي (العدو الأيديولوجي لروسيا) حتى أصبحت روسيا محاصرة بالحلف الغربي من الغرب،

الدولتان الوحيدتان اللتان لا تنتميان لا إلى هذا أو إلى ذاك من جهة الغرب هما أوكرانيا وبيلاروسيا.

روسيا هي ليست بالقوة التي تبدو عليها. صحيح أنها بلاد شاسعة حيث تبلغ مساحتها ضعف مساحة الولايات المتحدة،

وهي أكبر خمس مرات من الهند وخمس وعشرين مرة من بريطانيا،

لكن عدد سكانها يوازي عدد سكان دولة مثل نيجيريا أو باكستان،

أي أن قوتها البشرية لا تتوافق مع مساحتها وذلك لأن معظم أراضيها غير صالحة للسكن أو الزراعة،

ناهيك عن تراجع مُعدل الولادات فيها بشكل كبير ما سيؤدي إلى تراجع قوتها البشرية في المستقبل.

إضافةً إلى ذلك فإن نسبة كثيرة من سكان روسيا ليسوا روسًا من الناحية العرقية ولا يشعرون بالولاء أو الانتماء لروسيا.

لولا غنى البلاد بالنفط والغاز لكانت أضعف بكثير مما هي عليه الآن.

روسيا لديها عقدة أخرى ستوصلنا إلى أوكرانيا،

وهي افتقارها لميناء على المياه الدافئة. جميع منافذ روسيا البحرية لا تصلح كموانئ كونها متجمدة شتاءً ما يعني عدم وجود منفذ تجاري بحري والأهم بالنسبة لروسيا هو أن هذا يمنع الأسطول الروسي من التوسع والعمل كأسطول قوة عظمى، على غرار ما تفعله الولايات المتحدة والصين اللتان تعتمدان على أساطيل ضخمة لفرض السيطرة البحرية.

لهذا السبب استأجرت روسيا من أوكرانيا ميناءً على البحر الأسود في شبه جزيرة القرم، وكانت روسيا هانئة البال كون أوكرانيا وعدتها بعدم الانضمام للاتحاد الأوروبي أو للناتو حيث أن أوكرانيا تحصل على معظم مصادر الطاقة الخاصة بها من روسيا، لهذا لم تكن تريد إغضابها لضمان تدفق الغاز. لكن في العام 2013 بدأت بعض القوى الأوكرانية الحليفة للغرب تنادي بالانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو،

الشعب الأوكراني نفسه أكثر قربًا لقيم الليبرالية

كما أصبح الشعب الأوكراني نفسه أكثر قربًا لقيم الليبرالية والديمقراطية الغربية، وبشكل طبيعي فقد دعم الغرب مثل هذا الحراك وبدأ الرئيس الأوكراني حينها التقرب من الغرب مما أفزع الروس من فكرة فقدان سيطرتها على ميناء البحر الأسود ومن فكرة أن يحل مكانها أسطولًا تابعًا للناتو، وهو ما أدى بعد فترة من الفوضى السياسية في أوكرانيا إلى سلخ روسيا لشبه جزيرة القرم في العام 2014.

بيلاروسيا يحكمها دكتاتور تابع لروسيا، لهذا بقيت أوكرانيا هي نقطة الضعف الوحيدة في الخاصرة الغربية لروسيا. ومنذ سلخ القرم حتى اليوم اشتدت روابط العلاقة ما بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.

أوكرانيا دولة مقربة من الغرب،

فيها حرية تعبير وتنتخب رئيسها ديمقراطيا، والشعب الأوكراني ينتخب المقربين من الغرب ومن يطالبون بالانضمام للاتحاد الأوروبي والناتو. ما الذي يمكن أن يكون أكثر رعبًا لبوتين من هذا؟

بوتين يخشى من وصول المد الديمقراطي إلى عقر داره، هو لا يريد لشعبه أن يُشاهد دولة ديمقراطية ناجحة كانت تابعة يومًا للنفوذ الروسي.

وهو يعاني من عقدة سقوط الاتحاد السوفيتي ويريد إعادة روسيا قوة عظمى، كما يريد تشكيل منطقة عازلة بين روسيا والناتو.

لكل هذه الأسباب لا يريد بوتين لأوكرانيا أن تفلت من يديه، من وجهة نظره فهذه قد تكون بداية نهاية روسيا كما نعرفها اليوم.

ولا يوجد دليل أقوى على خوف بوتين من الديمقراطية من أنه دائما على مقربة من رؤساء العرب الديكتاتورين ليثبت ويشوش الرؤية للشعب الروسي نحو الديمقراطية وتحاول روسيا حاليا رسم سياسة تعتمد على المصالح أكثر من اعتمادها على القيم والايديولوجية.

وبالنظر لأمريكا فهي لا تريد أي صراع عسكري ضد قوة نووية مثل روسيا،

خاصة أن روسيا لا تنوي الاعتداء على المصالح الأمريكية بشكل مباشر كما أن أوكرانيا ليست عضوًا في حلف الناتو.

من جهة أخرى فالاقتصاد الروسي لن يتحمل أية عقوبات جديدة،

بعض العقوبات الاقتصادية التي هددت بها الولايات المتحدة هي عقوبات ثقيلة جدًا تصل إلى منع المصارف الروسية من استخدام نظام SWIFT العالمي

ما يعني فعليًا منع تحويل الأموال من وإلى المصارف الروسية

ما سيكون له نتائج مدمّرة على الاقتصاد الروسي فقط في حال عدم توافر البدائل، وهو ما يُشبه قنبلة نووية اقتصادية

وإن كان البعض يستبعد أن تصل العقوبات المُحتملة إلى هذه الدرجة

لأن هذا سيؤدي إلى مشاكل اقتصادية عالمية كون الكثير من الدول الغربية لديها تبادل تجاري كبير مع روسيا،

لكن جميعنا نرى أن روسيا تتجه للذهب وحتى هناك أقاويل عن العملات الرقمية بالرغم من أنه احتمال ضعيف،

إلا أن هناك بدائل ستجعل العقوبات الأمريكية على روسيا ضعيفة جدا،

وفى النهاية لن يصمد جيش أوكرانيا كثيرا وستأتي روسيا بحكومة مواليه لها وستنتهي المشكلة العائلية كما يصفها البعض..

الخلاصة:

نحن في عالم لا يعرف سوى المصالح والدليل حيادية دولة كألمانيا مثلا لمجرد حاجتها للنفط الروسي وهذا مجرد مثال.

ما يقال للعامة شيء والحقيقة شيء أخر ففي خطاب للشعب، حرص بوتين على توضيح أن الظروف تطلبت اتخاذ إجراءات حاسمة وفورية،

بعد أن توجهت دونباس إلى موسكو لطلب المساعدة، مؤكدًا أن خطط بلاده لا تشمل احتلال أوكرانيا لكنها ستعمل على نزع سلاحها،

وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة وهذا فقط يذكرني بالإعلام السوري الذي كان يصف قتل الشعب السوري المعارض  بالحرب على الإرهاب.

د. محمود حجازي

من د. محمود حجازي

كاتب مصري، وباحث في دراسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة