د. وصفي أبو زيد، متخصص في مقاصد الشريعة

وإذا كان الحج عبادة جامعة ومجمعة، يجتمع المسلمون فيها ليناقشوا ويتابعوا ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، فما من شك في أن شهر رمضان أو فريضة الصيام تمثل إحدى الركائز الأساسية والتدابير الشرعية التي شرعها الله تبارك وتعالى لإيجاد هذه الوحدة وتعزيزها، والعمل على بقائها واستمرارها، ورغم أنها لا تتكرر إلا مرة واحدة في السنة فإن لها أثرًا في النفوس بعد الشهر وقبله بما يملأ ما بين الرمضانين، لا تمحوه أيام العام جميعًا.

وتحقيق هذه الوحدة في الصوم -باعتبارها مقصدًا شرعيًّا- له من المعاني والأحكام ما يوجِد هذه الوحدةَ ويقوِّيها،

ويعمل على استمرارها وينمّيها، ومن أهم ما يمثل هذه الوحدة في رمضان ما يلي:

أولًا: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته:

فالأمة كلها من الخليج الهادر إلى المحيط الثائر تتطلع -على قلب رجل واحد- إلى هلال رمضان، ولكل بلد مراسم لاستقبال هذا الشهر الفضيل؛

من تعليق الزينة وفرحة الأطفال وتهليل الكبار وانشراح الصدور وراحة النفوس وبهجة الأرواح،

روى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته؛ فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».

وكذلك في هلال شوال؛ كل الأمة تتطلع إلى ذلك اليوم بمشاعر واحدة، وفرحة غامرة، بإتمام الشهر، واستقبال العيد، وتزاور الناس.

وما من شك في أن الاختلاف الذي يحدث كل عام بين بلاد المسلمين التي تشترك في جزء من الليل في رؤية الهلال أمر يخالف تحقيق وحدة الأمة،

رغم أنه من الأمور الظنية في الفقه الإسلامي، والخلاف فيه وارد،

غير أن هناك من الأمور النظرية والاتفاقات بين الدول ما يضمن وحدة هذه الرؤية، ومن ثم وحدة الأمة،

لكن ربما تتدخل أمور سياسية ومهاترات شخصية تحول بين الأمة وبين الاجتماع على هذا الأمر.

ثانيًا: التعبد فيه على نسق شعائري واحد:

فالمسلمون يصومون لرؤية الهلال، ويتسحرون كما أوصى النبي ﷺ، ويبدأ الصوم من أذان الفجر،

ويلزم المسلمُ خلال النهار الحلالَ الطيب من الأفعال والأقوال،

ويبتعد عن الحرام الخبيث من الأقوال والأفعال، ويفطرون مع أذان المغرب،

ويصلون التراويح، ويقبلون على القرآن، وهكذا.

كل هذه الشعائر أو الطقوس التعبدية يأتيها المسلمون جميعًا بطريقة واحدة وعلى نسق واحد، فلا يوجد نسق للأغنياء دون الفقراء،

وليست هناك طريقة للأقوياء دون الضعفاء، بل الكل في ميزان واحد، وعلى نسق واحد، وبشعائر واحدة.

وهذا من شأنه أن يوجِدَ الوحدةَ بين المسلمين، ويعمق شعورهم بالتقارب والتفاهم، مهما اختلفت أجناسهم ولغاتهم وألوانهم،

فكل الموازين والنعرات والقبليات والطبقيات تسقط أمام هذا النسق الواحد عند أداء هذه الشعيرة العظيمة.

ثالثًا: تذويب الفوارق الطبقية من خلال مراسم الجود:

ليس هناك من أيام في العام كله تنطلق فيها عجلة البر كما يكون في أيام رمضان، وليست هناك مياه تجري في نهر من الأنهار كما تجري مياه الخير والمعروف في نهر رمضان المبارك.

وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه كان «أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل،

وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرَسُول الله ﷺ أجودُ بالخير من الريح المرسلة».

ومن هذا المورد أيضًا صدقة الفطر؛ فقد روى مالك بسندِ سلسلةِ الذهب عن نافعٍ، عن ابن عمر قال:

«أمرنا رسول الله ﷺ أن نخرج صدقة الفطر -عن كل صغير وكبير وحرٍّ وعبد- صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من شعير أو صاعًا من قمح،

وكان يأمرنا أن نخْرِجَها قبل الصلاة، وكان رسول الله ﷺ يَقْسمها قبل أن ينصرف إلى المصلّى، ويقول: أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم».

وعن ابن عباس، قال: «فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طهرةً للصائم من اللغو والرَّفثِ، وطعمةً للمساكين،

من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».

وهذا الجود -المفروض منه والمندوب إليه- من شأنه أن يحدث لونًا من ألوان الحراك الشعائري نحو بلورة الوحدة بين مجتمع المسلمين.

رابعًا: الصبر على أذى الناس وعفة اللسان:

وهذا من واجبات الصوم؛ أن يحفظ المسلم الصائمُ بطنَه عن الحرام، وجوارحه عن المعاصي، وفكره من الهواجس السيئة، ولسانه عن فحش القول وبذيء الألفاظ،

وأن يصبر على أذى الناس وعواقب مخالطتهم،

والنبي ﷺ قال: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرًا من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».

قال المناوي: «ومِنْ ثَمَّ عَدُّوا من أعظم أنواع الصبر: الصبر على مخالطة الناس وتحمل أذاهم،

واعلم أن اللّه لم يسلطهم عليك إلا لذنب صدر منك، فاستغفر اللّه من ذنبك،

واعـلم أن ذلك عقوبة منه تعالى، وكن فيما بينهم سميعًا لحقهم، أصم عن باطلهم، نطوقًا بمحاسنهم، صموتًا عن مساوئهم».

وفي رمضان يحسُنُ بالمسلم أن يضبط نفسه أكثر ويصبر أكثر؛ طلبًا للأجر وتأليفًا للقلوب وتصحيحًا للصيام،

روى البخاري بسنده عن أبي صالح الزيات، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله ﷺ: قال الله:

«كل عمل ابن آدم له إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم …».

والله تعالى يقول: ﴿وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾

[فصِّلَت-34].

يقول صاحب الظلال في تفسيرها: وليس له أن يرد بالسيئة؛ فإن الحسنة لا يستوي أثرها كما لا تستوي قيمتها مع السيئة، والصبر والتسامح،

والاستعلاءُ على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة، فتنقلب من الخصومة إلى الولاء، ومن الجماح إلى اللين.

وهذا كله يوحد الصفوف وينقي الصدور ويصفّي النفوس ويؤلف القلوب ويجمع الأمة، وهو بعض آثار الصيام وبركاته على أمة محمد ﷺ.

خامسًا: تعميق الإحساس بالآخر:

والإحساس بالآخر مبدأ إسلامي أصيل؛ بل إنساني عام، اعتنى به الإسلام بشكل عام، وفي رمضان بشكل خاص؛ فصيام الأغنياء يشعرهم بحاجة الفقراء،

وصيام الأقوياء يشعرهم بحالة الضعفاء، وصدقة الفطر ترضي الفقير، وتنزع من نفسه فتيل الموجدة والحقد على غيره من المسلمين،

حتى الفقير الذي اجتمع لديه ما يكفيه ومن يعول يومًا وليلة وجب عليه أن يخرج زكاة الفطر؛

ليتعود على الجود والإنفاق، وأن تكون يده هي العليا، ولو مرة واحدة في العام، وليشعر أيضًا بحاجة غيره ممن هم أشد منه فقرًا.

وهكذا فالإسلام يريد من كل المسلمين أن يكونوا معطائين،

وأن تكون يدهم هي العليا دائمًا، ولا يخفى ما في ذلك من توحيد بين صف الأمة وتقوية شوكتها،

وسلامة نسيجها العام، كما نرى في هذه التدابير التواصل والالتحام، والتعاطف والانسجــام والالتئام.

ورحم الله أديب العربية والإسلام الأستاذ مصطفى صادق الرافعي حين قال: لو أنصفك الناس يا رمضان لسمَّوك (مدرسة الثلاثين يومًا)!.

(رؤى مقاصدية في أحداث عصرية 1)

من د. وصفي أبو زيد

متخصص في مقاصد الشريعة