ساقتني الأقدار إلى مدينة طنطا حيث لجنة الإدارة للتعليم الفني بشأن الانتداب لأعمال امتحانات الدبلوم،

ركبتُ القطار الذي أهوى ركوبَه جالسا، ثم أُطيل النظر من نافذته إلى الفضاء الرحب والأراضي الممتدة بامتداد البصر، ألفيتها تجود بالزروع اليانعة والمحاصيل الناضجة!

 صوت المكابح يؤذن بالتوقف في محطة طنطا؛ إنها مدينة طنطا الزاهرة، لم آت إلى هنا منذ عشرين عاما، مذ تسلمت تعييني بكفر الدوار محافظة البحيرة، كنت أمرُّ عليها أحمل الحلوى والحمص، فيالها من ذكريات!

لقد تغير المكان تماما؛ تجديدات وترميمات، ألوان وتقسيمات، نقوش ومنمنمات، وواجهات موحّدة للمحلات!

هذا يروِّج للتحف والأنتيكات، وذاك لأرقى أنواع الحلويات، وآخر لحلوى الشعر والحمص والمشبكات، يتخطّفنا مندوبو المحلات لنتذوق أفخر الأنواع ويعرضون علينا السعر؛ فهذا أحدُهم يحمل كيسا قد امتلأ بالحمص الفاخر، شرع ينثره علينا ويزيدنا منه إشارة إلى المحل خلفه؛ إنه حمص كاللوز، تعالوا عندنا، خطفت أبصارَنا كومةٌ من الحُمّص الفاخر، فتذكرت ذلك الكرتون الشهير ( حمض حمص .. تل ماينقض .. عمال يرقص)

(قرب قرب، تعالوا يا أفنديا، بـ 23 جنيه بس .. على عينك يا تاجر)

البضاعة تبدو أكثر من ممتازة والسعر مناسب جدا.

تجوّلنا في المكان وعاينا المحلات والأسعار، فلم نجد أرخص سعرًا ولا أطيب بضاعةً من هذا المحل الأول،

ذهبنا إليه فهشَّ لنا صاحبه وبشّ، وشرع يكرمنا مرة أخرى ويطعمنا من حمّصه الفاخر؛ حباته كبيرة الحجم وممتلئة وتكاد قشوره إذا نفختها تطير، شرعنا نزركش ونقرقش لذيذَ الحمص، ثم أشرت للرجل وهو لا يكاد يظهر من خلف الكومة بأن يزن لي كيلو، ولزملائي أحدهم كيلو ونصف والأخرين لكل واحد كيلو،

وبخفة بارعة يعبئ الرجل الأكياس ويطويها جيدًا ويزجّ بها عند آخر للحساب، ثم زدنا من عنده حلاوة شعر وأخرى كقطع الجبن بيضاء وحمراء للأطفال،

وبعض أقراص المشبكة، وتناول كل منا كيسه قافلين إلى محطة القطار بعدما فشلنا في إنجاز المهمة الأساسية التي جئنا من أجلها.

لم نفتح الأكياس ولم ننظر إليها ثقةً في البضاعة وأصحابها.

خلّفنا المسجد الأحمدي خلفنا بقبابه المزخرفة، ومآذنه الشاهقة؛ فلم يكن هو وجهتنا ولا الطواف حول قبورِه عقيدتنا،

أعطيناه ظهرنا وركبنا قطار العودة إلى ميت غمر بعدما هدّنا النصب ونال منا الإرهاق مبلغا كبيرا.

ولجت المنزل سعيدا بما جلبت، وشرعتُ أفتح كيس الحمص لأنثره على الأولاد ليأكلوا ويسعدوا؛ فطالما طلبوه مني، وإذ بي أجد عجبًا!

ليس هذا هو الحمص الأصفر الذي عاينت وأكلت، إنه داكن اللون، صغير الحجم وأكثر شبهًا بحبّات الزلط، 

فهو قاسٍ جدا وعصيٌّ على الكسر، فأنى للأسنان بطحنه، وكيف به يؤكل؟!

فيالك من مُخادع  وغشّاش يا بائع الحمص! لن أسامحك أبدا.

ألم يأتك حديث النبي صلى الله عليه وسلم:

عن أبى هريرة رضي الله عنه أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مرّ على صُبْرَة طعام،

فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللاً،

فقال: (ما هذا يا صاحب الطعام؟)، قال: أصابته السماء يا رسول الله،

قال: (أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس؟ من غشنا فليس منا)