عادل الشريف

الحمد لله لقد استيقظت قبل الفجر بنحو الساعتين وبطلة التهجد هذا الليل هي آخر خالاتي التي تُوفيت قبل أيام..

سأدعو لك في كل سجداتي يا خالتي فاطمئني.. ورغم أنها قاربت الخامسة والسبعين إلا أن وجهها الذي يملأ رأسي الساعة وهي ابنة الخامسة عشر،

وجه تحتشد فيه الحيرة والحزن والقلق ويدها تمسك بيدي وأنا ابن السابعة وترتعد يدها وترعدني معها وتحاول أن تحبس دموعها لدقائق ولكن الدمعات كأنها كانت محبوسة خلف جبل عنادها لتزيح الجبل وتنساح على وجنتاي أنا.. صوتها حبيس وكلمات دفاعها عن نفسها محتبسة لاهثة بالكاد تصدر همهمات لا يفسرها إلا أنا.

لقد وصلت أسرة عمتي بكاملها وكلهم تبرق عيونهم غضبا من هذه السارقة التي سرقت ساعة ولدهم الأكبر بينما كنا في بيتهم في صباح يوم عيد.. وأبي وعمي الأكبر متزوجان من أختين (أمي وخالتي الكبرى)،

ووقف أبي وعمي يدافعان عن الفتاة ما لم تظهر قرينة.. وانقسمت العائلة إلى قسمين وبدأت الألسنة ترعد بمخبوءات القلوب..

وصاح أبي يريد أن يسيطر على علاقات الرحم قبل تمام الانهيار فوجه أمراً لزوج عمتي بأن يصطحب أسرته وينصرف وإلا، فصاح الأخير بكلمة منكرة

فكأن الكلمة فطرت رأسه ورأس كل الحضور حتى عمتي وأبناءها فلقد كانوا يعشقون والدي..

وفي هذه اللحظة الفارقة والتي بلغت القلوب فيها الحناجر يصل صاحبا لابن عمتي وهو من الأقارب أيضا ويقدم الساعة لابن عمتي ويخبرنا جميعا أنه نسيها في بيته عندما خرجا من بيته عصرا يلهوان بالدراجات.

لم أر في حياتي انسحابا صامتا كمثل ما رأيت ساعتها، الجميع ينسحب بين أسف وندم وعتابات فقط بالعيون..

لا كلمة ولا حرف، فقط علا نشيج بكاء خالتي المُتهمة، وهذا ما بقي لها منها في ذاكرة هذا الفجر،

وهذا هو وجهها الذي حاز كل دعوات السجدات وبكائها ورجواتها.

 كنت يومها صغيرا وظلت مسألة الظلم والعدل تفجر رأسي بأسئلة كثيرة،

فماذا لو لم يحضر صاحبنا الساعة في هذه اللحظة الفارقة..

أيضا فهناك إدراك أدركته بعدها أن هذه الحادثة كبحت جماح ضحك خالتي وصفة الفرفوشة التي كانت مشهورة بها

وربما أهلتها لتستقبل أحداثا جساما هائلة ستتحملها وتصبر حتى لحظات الرحيل الأخيرة،

وأما زوج عمتي؛

فلقد رهن نفسه لكلمة محدودة الحرف لكنها أبدلت نفسه إبدالا،

إنه كمن عصى الله بخطيئة كبرى ثم عاش عمره بعدها باكيا مستغفرا هينا لينا يكاد يحمل أبي ويطير به طيرا، ويوقره توقيرا،

ويرسل ولديه الكبيرين ليسألا أبي وأمي عما يحتاجانه، وكان أبي ينتدبه لمشاوير حيوية يصحبني وأمي فيها

فيسير في الأمام يحمل العنوان ويتقصى ونحن نسير خلفه ويشق لنا الطريق في الحافلات

ويقوم بدفع ثمن بطاقات الركوب مقبلا متحمسا..

نعم فرب معصية أورثت القلب ذلا وانكسارا فقربت صاحبها من رضوان ربه الحبيب،

ورب طاعة أورثت القلب كبرا وغرورا فكان بها من أصحاب الجحيم ولقد صادفنا من هؤلاء كثيرا.

هل كان ممكنا أن تسوي القبور بين المتناقضين، بين قاتل ومقتول وظالم ومظلوم وسارق ومسروق..

فمن يدفع الحساب للقلوب التي حزنت وتحيرت واتهمت بمليار باطل وصبرت..

من لمن أحب وقضى رحلته يحب ويدعم ويواسي ويبذل كلمات الصبر والدعوة والدعاء للقلوب حتى تلين،

ومن ينتقم من الظالمين والطغاة والمفسدين ومروجي الفواحش ومزيني العصيان..

أزيحوا الأتربة عن شاشات سينما القلوب لتروا رحلات كثيرة كثيرة تصافت منها عبر وعظات أثيرة منيرة..

الحمد لله أننا نؤمن بك يا مالك يوم الدين والقلوب بين يديك تقلبها حسبما تحب وتشاء فاقدر لنا من كل خير تشاء.