فاتن فاروق عبد المنعم .. مميزة

اللبن المسكوب:

معاهدة 1936 التي وقع عليها الساسة المصريين تحت الضغط والتهديد والتي أصلت لفصل مصر عن السودان وإطلاق يد انجلترا وحدها في السودان لجعلها مستعمرة بريطانية والتحكم في منابع النيل ودول وادي النيل بكل مكوناتها، وبمقتضى هذه المعاهدة فإنه لا يحق لمصر مطلقا أن تطالب بأحقيتها في إدارة السودان أو التذرع بكون مصر والسودان دولة واحدة لا يحق لكائن من كان أن يفصلهما، إنها المعاهدة التي قال عنها مصطفى النحاس معاهدة الشرف والاستقلال!! فلنبكي اليوم جميعا على اللبن المسكوب، لكل مرض يصيب الجسم تاريخ مرضي يتتبعه الطبيب حتى يبلغ بمريضه العلاج الأمثل فهل بدأنا نفقه أولى مراحل العلاج؟

الحرب الأوروبية الثانية:

هي التسمية الصحيحة للحرب العالمية الثانية كما الأولى، كانت بين انجلترا وفرنسا  ضد ألمانيا وإيطاليا وبمقتضى معاهدة 36 أعلنت مصر الأحكام العرفية وعين علي ماهر حاكما عسكريا وأعلنت الرقابة على الصحف والمكاتبات والسينما والإذاعة وأقر البرلمان قطع علاقة مصر بألمانيا وإيطاليا واعتقلت مصر رعايا إيطاليا فلم تكتف انجلترا بذلك بل اتهمت مصر بمشايعة إيطاليا فقام سفير انجلترا بإبلاغ على ماهر احتجاج أشبه بالإنذار بتعذر تعاون انجلترا مع حكومة على ماهر فقام الأخير بتقديم استقالته احتجاجا على تدخل انجلترا في شئون مصر!!

صندوق الدين:

هذا الصندوق تم إنشاؤه منذ أن حل مراقبان أحدهما انجليزي والآخر فرنسي لجدولة ديون مصر التي استدانها الخديوي إسماعيل وقام بسدادها فقراء مصر من عظامهم النخرة، فقد تم إلغاء هذا الصندوق عام 1940 طبقا لمعاهدة 1936 وما يتبع ذلك من إلغاء الامتيازات الأجنبية، وقعت كل من انجلترا وفرنسا وغابت إيطاليا لقطع العلاقات معها ولكن انجلترا لا يفوتها الفوز دائما فقد مدت حق امتياز البنك الأهلي (وهو انجليزي النشأة والإدارة) أربعين سنة أخرى وما يستتبع ذلك من أحقيتها في طبع أوراق النقد المصري وبذلك فإن انجلترا تتحكم في الاقتصاد المصري تماما وهذا امتياز يفوق امتيازات صندوق الدين بمراحل، ومن خلال هذا البنك طبعت انجلترا مئات الملايين من الجنيهات لتغطي نفقاتها في الحرب ورعاية شئون مستعمراتها وهو ما لم تسدده انجلترا لمصر حتى اليوم.

فكر استعماري:

في عام 1892 أعلن رئيس مؤتمر المستشرقين العلماء الأبرار:

 «أن انجلترا في الوقت الحاضر تعد أعظم إمبراطورية شرقية عرفها التاريخ حتى الآن وهي تعرف ليس فقط أن تستولي بل وكيف تحكم»

مع بدايات القرن التاسع عشر انتشر في أوروبا ما يعرف بالمعارض العالمية ومؤتمرات المستشرقين، في الأولى يعرض داخل أبنية زجاجية شارع من شوارع المدينة الممثلة تتيح للمشاهد أن يرى مشاهد حية وصورة كاملة لمدن الشرق تحديدا بكل مكوناتها لدرجة أنهم في أحد المعارض الباريسية استوردوا حميرا من القاهرة لتسير في ذلك المكان المعد لتمثيل كأنه في القاهرة بل وبياض الأبنية حرصوا على أن يكون مغبرا كما في القاهرة وباعة الفطير، صورة كاملة للحياة فيها وعندما كان الزوار يسمعون صوت الآذان كانوا يستاءون من هذا الصوت النفرالذي يؤذي مسامعهم. (وطبعا امتدت إلينا العدوى فخرجت على شاشات إعلام الرايات الحمر ابنة الراقص المستاءة من صوت الآذان وكتب شاعر وناقد ومترجم على صفحته في الفيسبوك مستاء من تداخل صوت آذان الفجر!! هذه الكيانات لا يسوءهم في مصر سوى الآذان، شاهت الوجوه)

 ومن المساخر الجديرة بالذكر أن الخديوي إسماعيل كان حاضرا في أحدى هذه المعارض وقام بالترحيب بالزوار على طريقة العصور الوسطى وهو لا يدري أنه تحول إلى جزء من مشهد معروض.

 كان الطلاب الذين يرغبون في دراسة الاستشراق يحضرون هذه المعارض والمؤتمرات ليتخير كل منهم البلد التي سيدرسها، كأنه ماكيت، وفي أحد هذه المعارض استاء المصريون الحاضرون من المبالغة والسخرية والتندر في هذه المعارض على المصريين.

 ولنا هنا وقفة ولتكن نقد فني، الفكر الاستعماري المهيمن على أوروبا بل الغرب بعامة هو المحرك الرئيس لكل سلوك تجاهنا حتى يومنا هذا، وفكرة المعرض بأن يمثل دولة داخل بناء زجاجي تعني أنهم من يهيمنون على الشرق الإسلامي بعامة بل ويرسمون شكله حسبما يريدون وهذا ما يطمحون في تأصيله داخلنا حتى لا نتحرر من ربقتهم، ولا أدل على ذلك من المستشرق الفرنسي كاتب مقدمة كتاب وصف مصر أنه قال عن هذا الكتاب الذي نفتخر به! أنه لا فائدة لنا فيه ولا دور لنا فيه، فقط نحن ذريعة لكتابة نص وسبق أن تعرضت لهذا تفصيليا عند الحديث عن الاحتلال الفرنسي لمصر.

المفكر الإنجليزي جيرمي بيتنام كي ينقل لنا تصوره عن سلطة الدولة القومية الحديثة في أي مكان في العالم،فابتكر ذهنيا نوع من السجون سماه البانو بيتكوين، هذه السجون وهي عبارة عن زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسطها برج للمراقبة، والحارس الذي بالبرج يستطيع أن يرى بعينه كل المساجين بينما هم لا يعرفون ولا يستطيعون أن يروه في ذات اللحظة، هذا السجين غارق في الضوء ليكون متاحا لمراقبة الحارس تم تشيئته كإنسان، وهذا ما فعله بنا الاحتلال الإنجليزي على وجه الخصوص كامتداد لمحاكم التفتيش الكنسية بالأندلس حيث كان أفراد الأسرة الواحدة يتجسسون على بعضهم البعض لإبلاغ محاكم التفتيش خوفا من بطشهم، وكذلك امتدادا للاحتلال الفرنسي.

هنا يتحول السجين المراقب من الحارس إلى رقيب على نفسه كما قال ميشيل فوكوه (فانتشر قول الحيطان لها آذان، إمشي بجانب الحائط بل وإمعانا في الخوف فإنهم يقولون إمشي جوة الحائط)

إنها دولة الاحتلال أيا كان مسماها انجلترا أو غيرها والتي حرصت على أن يعاد هندسة الدولة المحتلة لتخدم فكرها الاستعماري وقد شرحت مفصلا ذلك في مقال سابق.

فكرة المراقبة الدائمة التي تحدث عنها جيرمي تحيلنا مباشرة إلى ما انتهينا إليه الآن وهي شريحة بيل جيتس التي يريدون بها تحويل الإنسان إلى هاتف متحرك ويحمل كل بياناته في داخله والحارس المراقب لنا من البرج يستطيع أن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراه.

هذا يحيلنا إلى السؤال متى نتحرر منهم؟ أجيبك إذا تحررت أنت من داخلك أولا ووثقت في نفسك وقدراتك ثم وقفنا أمامهم ندا لند وهذا يتطلب امتلاك مقومات القوة على تنوعها حتى لا يرسم شكلك في معرض ويحدد ملامحك، هويتك، وأن يحترم وجودك فلا تكون ذريعة لكتابة نص، وأن تتخلص من الإطار أو البرواز الذي صممك داخله.

ولكي تعرف ما فعله الاحتلال الإنجليزي بمصر أحيلك إلى قول تيموثي ميتشيل عن مصر:

«الاحتلال الإنجليزي حول مصر من بلد يشكل واحدا من المحاور في تجارة العالم العثماني وما وراءه، وكان ينتج ويصدر مواده الغذائية ومنسوجاته الخاصة إلى بلد يهيمن على اقتصاده إنتاج سلعة واحدة هي القطن الخام من أجل صناعة النسيج العالمية الأوروبية».

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر