هذا الكتاب وعنوانه «تاريخ أوروبا في العصر الحديث 1789 – 1950» لهربرت فشر، وترجمة أحمد نجيب هاشم ووديع الضبع، يعد من أشهر المؤلفات الحديثة التي صنفت في هذا الموضوع، ويمتاز بأنه يقدم صورة حية وتحليلاً عاماً للشخصيات والأحداث التي يعالجها، فلا يملأ صفحاته بجزئيات الوقائع وتفاصيل الأحداث، ولا يحصر المؤلف الكبير دراساته في تاريخ أوروبا من الناحية السياسية فحسب، بل يُعنى أيضاً بدراسة القوى والعوامل الاقتصادية والاجتماعية والدينية التي نبتت منها أصول تلك الأحداث السياسية، ولا يتحدث عن تاريخ الدول الأوروبية باعتبارها وحدات سياسية منفصلة، بل يعالجها على أنها أعضاء في كائن حي، يتأثر كل عضو منها، ويؤثر بدروه في سائر الأعضاء، ويتجنب الإطالة في وصف المعارك والإفاضة في ذكر تفاصيلها المملة، ويرمي إلى أن يكون كتابه هذا حافزاً للقارئ إلى الاستزادة من الاطلاع ومواصلة البحث والدراسة.

يؤرخ الكتاب للثورة الفرنسية، وينتهي بتاريخ أوروبا إلى ما قبيل نشوب الحرب العالمية الثانية، حتى سنة 1934، حيث توفي مؤلف الكتاب هربرت فشر قبل أن يتسنى له الكتابة عن الأحداث العالمية خطيرة الشأن بعيدة الآثار، فرأى فريق الترجمة والإشراف على الكتاب أن تعالج الأحداث المعاصرة التي جرت في الحقبة التي توسطت عامي 1934 و1950 فأضافت اللجنة ثلاثة فصول جاءت في نحو مئة صفحة، فشرحت في شيء من التفصيل الأحداث العالمية الكبرى التي انتهت إلى إشعال الحرب العالمية الثانية، ثم تحدث عن المعضلات الكبرى التي تلت الحرب، ومعاهدات الصلح ومظاهر الاتحاد في أغلب أرجاء العالم، وعوامل الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، ووصف موجز لنظم هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها.

يبدأ الكتاب بمقدمة تشمل تاريخ الإنسان في العصر الحجري، ويختتم صفحاته بستالين ومصطفى كمال أتاتورك وموسوليني وهتلر، وبين هذين العصرين غامضي المعالم من عصور تاريخ الجنس البشري، يستعرض الكتاب تنقلات الشعوب الآرية الزاخرة بألوان النشاط، واستيطانها أرجاء أوروبا وظهور عباقرة اليونان وازدهار نتاجهم العقلي، وبسط السلام أوليته أيام دولة الرومان، وموجة التطهير التي ظهرت بظهور المبادئ الخلقية المسيحية، والنهضة بطيئة الخطى في العودة إلى دراسة الآداب القديمة، بعد أن اختفت، واستكشاف العالم الجديد بارتياد المجهول من المحيطات، وتحكيم العقل خلال القرن الثامن عشر وظهور الحركة العلمية وتقوية روح الخير العام إبان القرن التاسع عشر.

ويسرد الكتاب تاريخ الإغريق والرومان والشعوب البربرية والمسيحية، ويخص استكشاف العالم الجديد واستعماره، وقيام الدول وتطور النظام الرأسمالي تطوراً كاملاً، تخص هذه الأمور عصراً تالياً هو عصر حديث نسبياً، باعتبار أنه قد مضى ستة آلاف عام على ظهور الحضارة الإنسانية في هذا الكوكب، أما كشف البخار والكهرباء وتسخيرهما لخدمة الإنسان، فهما أحدث وأقرب، ومن المحتمل أن البشر بعد ألفي عام سوف يعتبرون كشف النقاب عن أسرارهما بمثابة الحد الفاصل في تاريخ البشرية.

يعد هذا الكتاب أحد أهم المراجع التي تناولت التاريخ الأوروبي الحديث، وتشكله بفعل العوامل السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والاجتماعية العديدة التي انصهرت لتصوغ هذا التاريخ كما نعرفه اليوم، ويتميز منهج «فشر» بالنظرة الكلية الشاملة لحوادث التاريخ، والقدرة على الربط والمقارنة والتركيز، مع سمو في أسلوب العرض من الناحيتين الإنشائية والموضوعية.

أما المؤلف فهو عَلَم من أعلام المؤرخين في العصر الحديث، ومصلح من كبار المصلحين في شؤون التربية والتعليم، خلف وهو في كرسي الأستاذية من الآثار العلمية والأبحاث التاريخية الممتازة، ما يشهد له بالعلم الغزير والبحث الدقيق والتنزه عن الهوى، وفي عام 1930 بدأ يؤلف كتابه «تاريخ أوروبا» وأتمه سنة 1935 وقد استنفد منه جهوداً جبارة، واقتضى منه بحوثا متشعبة، واعتلَّت صحته في أواخر سنة 1935، لكنه تعافى، وفي أحد أيام سنة 1941 صدمته سيارة في الطريق العام وأودت بحياته، وخسر علم التاريخ قُطباً من أقطابه.