كتاب "علم الكلام"

يفصل عالم الدين والفيلسوف العثماني (التركي الكردي) بديع الزمان النورسي (1878-1960) عن الفيلسوف الفرنسي فولتير (1694-1778) حوالي قرنين من الزمان، وأكثر من 4 آلاف كيلومتر هي المسافة من تبليسي (شرق الأناضول) إلى باريس، إلا أن الفكر البشري لا يعرف هذه المسافات والفروق خاصة حين يتفاعل مع أحداث متشابهة كالزلازل التي هي حديث الناس في العالم الآن بعد زلزال تركيا وسوريا 2023.

كتب فولتير “لا أعرف ما هو أنفع لإكمال الذوق من المقابلة بين أكابر العباقرة الذين تناولوا عين الموضوعات”. فماذا قال النورسي عن زلزال 1939 المدمر الذي ضرب أرزنجان التركية وقتل فيها حوالي 40 ألفًا، وهدم آلافًا كثيرة من المنازل؟ وماذا قال فولتير عن زلزال لشبونة الذي ضربها سنة 1755 وقتل عشرات الآلاف، وتشققت معه الأرض، وتهدمت المباني؟

هذا هو موضوع الفصل الخامس من كتاب جديد صدر أخيرًا عن دار المحرِّر بالقاهرة للأكاديمي المصري نبيل فولي الأستاذ بجامعة السلطان محمد الفاتح بإسطنبول تحت عنوان “علم الكلام.. قضايا وشخصيات”.

وقد اختار فولي أن يعرض لقضايا تكاد تكون تقليدية في مجال الدراسات الكلامية، إلا أن أسلوب الكتابة جاء حداثيًا بامتياز حيث البحث عن الخلفيات والدوافع والأهداف التي تؤثر بحركة الأفكار واتجاهاتها مما يجعلنا نعتبره بحق كتابا تطبيقيًا في أحد أحدث العلوم، وهو علم تاريخ الأفكار الذي بدأ الحديث عنه الأميركي آرثر لافجوي (عام 1962) صاحب كتاب “سلسلة الوجود العظمى” (The Great Chain Of Being) ثم تطور هذا الفرع المعرفي بعده تطورًا كبيرًا.

فلسفة الزلازل

في الفصل الذي عنونّ به هذه السطور، قدم الكاتب نموذجا مقارنا لمواقف المفكرين من أحداث الكون الكارثية؛ بغية إبراز المؤثرات النفسية والثقافية والظروف الحضارية العامة التي تصنع هذه المواقف، واختار شخصيتين تنتميان إلى بيئتين ثقافيتين مختلفتين ليدرس موقفهما الفكري من الزلازل حيث يكثر حديث الناس دائما مع وقوعها، في محاولة لفهم هذه الصدمة المؤلمة التي تقع للناس من وقت ومكان إلى آخر.

هاجم فولتير القائلين إن زلزال لشبونة جاء عقوبة إلهية للناس على آثامهم، وصاغ ذلك شعرًا منه قوله:

“هل ستقول: إن الله انتقم منهم، وإن موتهم هو ثمن على جرائمهم؟!

أيُّ جُرم وذنب اقترفه الطفل الذي يرقد على ثدي أمه يسيل منه الدم؟!

وهل انغمست لشبونة في الفسق أكثر من لندن أو باريس اللتين تعيشان في سعادة؟!

الحقيقة أن لشبونة محطمة، والناس يرقصون في باريس”!

ورفض كذلك قول من رأى أن هذا جزء من نظام الكون الكامل الذي لا يمكن أن يكون هناك أكمل منه، وقال فيهم:

“تقولون: كل شيء على ما يرام، وكل شيء ضروري!

هل تعتقد أن هذا الكون بدون هذه الهاوية التي ابتلعت لشبونة سيكون أسوأ حالا؟!”.

و”من قال للحزانى من سكان هذه الشواطئ المقفرة: لقد سقطتم ومتم بسلام، لقد دُمرت بيوتكم من أجل خير العالم؟!”.

وكتب فولتير قصيدة مطولة ورواية بعنوان بطلها “كنديد” للرد على أصحاب مذهب التفاؤل الذي قال به الفيلسوف الألماني لايبنتز، وعلى كل التسويغات التي بدت له غير معقولة في تفسير وقوع الزلازل.

وذهب إلى أننا يجب أن نقبل العالم على ما هو عليه كما خلقه الله بهداياه العظيمة وكوارثه المرعبة، وأن نتعاون في التقليل من الآثار السلبية لها. وهو مذهب عملي ظهر مبكرًا، وتعزز بقوة فيما بعد، وإن اكتسى كسوة إلحادية شبه صريحة في رواية “الطاعون” لألبير كامو.

الخير والشر عند فولتير والنورسي

من المفارقات أن يختار فولتير لحكاية الموقف الصوفي من الكوارث -كما تصوره هو- صوفيا متفلسفا عثمانيا، فقد اجتمع أبطال رواية “كنديد” الذين أصابتهم جميعًا سلسلة كبيرة من النكبات والكوارث العظمى “وكان يوجد في الجوار درويش مشهور معدود خير فيلسوف في تركيا، ويذهبون لمشاورته، ويتناول بنغلوس الكلام، ويقول له: يا أستاذ، أتينا لنرجو منك أن تقول لنا سبب خلق حيوان عجيب كالإنسان؟ ويقول الدرويش له: ما دخلك في الأمر؟ أَمِنْ شأنك هذا؟ ويقول كنديد: لكن يا أبت المحترم يوجد شر هائل في الدنيا. ويقول الدرويش: وما أهمية وجود خير أو شر؟ إذا ما أرسل صاحب العظمة سفينة إلى مصر، فهل يبالي بكون الفئران في السفينة مستريحة أم لا؟ ويقول بنغلوس: إذن، ما يجب أن يصنع؟ ويقول الدرويش: أن تقطع لسانك عن الكلام. ويقول بنغلوس: أطمع أن أباحثك قليلا في المعلولات والعلل، وفي أحسن ما يمكن من العوالم، وفي أصل الشر، وفي طبيعة الروح، وفي النظام المقدَّر. فلما سمع الدرويش هذا الكلام أغلق الباب بعنف في وجوههم!”

وأما النورسي، فقد خاض معركة ضد الملحدين الذين قدموا لزلزال أرزنجان تحليلا يثبت العبثية في أحداث الوجود، وأن القول بأي نظرية إيمانية لبيان شيء من الحكمة في الزلازل والكوارث الكونية هو من العبث الذي ينبغي تجنبه! وكذلك الذين نفوا أن يكون خلف ما جرى صانع حكيم، معتقدين أن ما حدث ما هو إلا أفعال الطبيعة بنفسها، إذ تتفق عوامل وظروف طبيعية خالصة تؤدي إلى مثل هذه النتائج بمعزل عن أي أفكار أو اعتقادات دينية.

وأكد أنه لا يمكن أن يبتلي الله عباده بهذا المصاب الفادح دون أن يكون وراء ذلك حكمة ربانية بليغة، ودون أن تكون لهذا الفقد الكبير قيمة، ويقول “كيف يمكن أن تكون تلك الحادثة المليئة بالموت بلا قصد ولا غاية كما نشر ملحد، ظنًا منه أنها مجرد مصادفة، مرتكبًا بذلك خطأ فاحشًا ومقترفًا ظلمًا قبيحًا، إذ صير جميع ما فقده المصابون من أموال وأرواح هباء منثورًا قاذفًا بهم في يأس أليم. والحال أن مثل هذه الحوادث تدخر دائمًا أموال أهل الإيمان، محوِّلة إياها بأمر الحكيم الرحيم إلى صدقة لهم، وهي كفارة لذنوب ناشئة من كفران النعم”.

كما نفى النورسي وجود علاقة طردية بين الكوارث وأعمال العباد، فكما لا تكون المصيبة حين تصيب الخلق علامةَ سخط مطلقًا، فإنها ليست جزاء للعباد مطلقًا، لذا قد يترك الله الكافر المجرم الظالم، ويصيب المؤمن المطيع أو العاصي أو الكافر الأقل طغيانًا، إذ لا علاقة طردية بين هذه السنن الكونية وبين صلاح الخلق وفسادهم، ولو كان الأمر بعكس ذلك للجأ الناس إلى ما يحقق لهم النجاة إيمانًا كان أو كفرًا.

ويصرح النورسي بأن الزلزال يكون إيقاظا للغافلين من أهل الإيمان، وفي عصاة المؤمنين الذين أصابتهم الزلزلة قال كذلك “إن هناك أمارات كثيرة على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، إذ وقوعها في قارس الشتاء وفي ظلمة الليل وفي شدة البرد، وخاصة في هذه البلاد التي لا يُحتَرَم فيها شهر رمضان، واستمرارها الناشئ عن عدم اتعاظ الناس منها، ولإيقاظ الغافلين من رقدتهم بخفة، وأمثالها من الأمارات تدل على أن هذه الحادثة استهدفت أهل الإيمان، وأنها تتوجه إليهم، وتزلزلهم بالذات لتدفعهم إلى إقامة الصلاة والدعاء والتضرع إليه سبحانه”.

وبالنسبة لغير المؤمن، فإن الكوارث تحقق نفس الهدف السابق، وهي تنبيه الناس من غفلتهم “صفَع رب العالمين البشرية ببلايا وآفات عامة مرعبة كالحرب العالمية، والزلازل، والسيول العارمة، والرياح الهُوج، والصواعق المحرقة، والطوفانات المدمرة. كل ذلك إيقاظًا لهذا الإنسان السادر في غفلته، وسوقًا له ليتخلى عن غروره وطغيانه الرهيب، ولتعريفه بربه الجليل الذي يُعرِض عنه، فأظهر سبحانه حكمته وقدرته وعدالته وقيوميته وإرادته وحاكميته إظهارًا جليًا”.

وفي رؤية فلسفية للكوارث الكونية، رأى النورسي أن الشدائد والابتلاءات تمثل نوعا من التجدد الكوني، بعيدًا عن الاضطراد الذي لا يخرقه شيء، ويقول “الوجود خير محض، والعدم شر محض، والدليل هو رجوع جميع المحاسن والكمالات والفضائل إلى الوجود، وكون العدم أساس جميع المعاصي والمصائب والنقائص. ولما كان العدم شرًا محضًا، فالحالات التي تنجرّ إلى العدم، أو يُشم منها العدم تتضمن الشر أيضًا، لذا فالحياة التي هي أسطع نور للوجود، تتقوى بتقلبها ضمن أحوال مختلفة، وتتصفى بدخولها أوضاعًا متباينة، وتثمر ثمرات مطلوبة باتخاذها كيفيات متعددة”.

الوظيفة الفكرية والاجتماعية للكلام

في فصل آخر تناول الكتاب الوظيفة الفكرية والاجتماعية للتعليقات العقدية التي بثها الإمام الترمذي في ثنايا كتابه “جامع السنن الكبير” المشهور بسنن الترمذي، وقد تأكد فيه الاتصال المباشر والقوي بين كتب العلم وواقع الحياة الفكرية والسلوكية، فإضافة إلى تأليف الترمذي للسنن لكي يعبر بالنصوص الحديثية عن أحكام الشريعة في قضايا الفقه والأخلاق، فقد اهتمت التعليقات التي أردفها ببعض هذه المرويات ببيان موقف السلف من بعض القضايا التي كانت ولا تزال محل خلاف بين الناس، ومن هنا تأتي وظيفتها الفكرية والاجتماعية.

ورصدًا لمعركة فكرية أخرى قديمة، جال بنا المؤلف بالقرن الثامن الهجري في قضية لها صلة مباشرة بواقعنا الثقافي الحاضر، فلدينا الآن خلاف حاد لا يخفى على أحد بين المدرستين الأشعرية والسلفية تطفح به الكتب والصحف ومواقع التواصل الاجتماعي وحتى المنتديات والمساجد.

وتمثل دراسة “الأصول والدوافع الثقافية والاجتماعية لاعتراضات السبكي على الذهبي في تراجمه لمتكلمي الأشاعرة” نموذجًا قديما لهذا الخلاف نفسه تقريبًا، فالسبكي (تاج الدين) أخذ على شيخه الذهبي (تلميذ ابن تيمية) انحيازه للحنابلة على حساب الأشاعرة الذين كانوا يمثلون أكبر تكتل علمي في الدولة حينئذ، ضمن ظروف ثقافية واجتماعية جعلت الموضوع الواحد يخضع لتفسيرات فكرية متعارضة.

وفي رصده لمعركة فكرية أخرى، بدلا من أن يتناول المؤلف -باعتباره باحثًا متخصصًا في المنطق الصوري وعلم الكلام- الخلاف الشهير بين الإمام أحمد بن حنبل وصديقه الإمام الحسين الكرابيسي حول الحكم على لفظ القارئ للقرآن، هل هو مخلوق أم لا، تناولاً تقليديًا في نطاق معالجة الفكرة المجردة، درس الموضوع ضمن ما أطلق عليه “مآلات الرأي”. فالإمامان لم يختلف رأيهما حقيقة في هذه المسألة، بل كلاهما يرى أن صوت القارئ بالقرآن مخلوق ولا شك، ولكن أحمد راعى شيئا لم يتنبه إليه صاحبه، وهو أن الخوض في هذه المسألة قد يتطور “ويؤول” إلى الخوض في آراء باطلة كالقول بخلق القرآن نفسه، لذا يلزم الكف عن الخوض فيها، ولو بقول الحق!

وقد حصل بالفعل ما خشي منه الإمام أحمد، خاصة من بعض أتباعه من الحنابلة أنفسهم، وهو من عجيب حالات تطور الأفكار، فقد فهموا أن رفض أحمد لقول الكرابيسي بأن قراءتنا وتلفظنا بالقرآن مخلوق يعني أنه يقول إن قراءتنا للقرآن غير مخلوقة! وقد سجل الشيخ ابن تيمية هذه الفكرة مؤكدًا أن “أهل خراسان (الذين أخطؤوا في فهم هذه المسألة) لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخص به”.

وقد حصلت بين أحمد والكرابيسي قطيعة بعد هذه المعركة الفكرية، وأدى نقد أحمد لصاحبه القديم إلى هِجران الناس له ولروايته، حتى حاول ابن حجر بعد قرون أن ينصفه، ويقدّر إمكاناته العلمية العظيمة.

وجاء هذا المولود الفكري الجديد في 237 صفحة، بتقديم ومراجعة الكاتب والمفكر المصري أسامة القفاش، وضم 6 فصول، تناولت أفكارا شتى لشخصيات تتنوع مكانًا وزمانًا، مثل: أحمد بن حنبل، الكرابيسي، البخاري، الترمذي، ابن فورك، الجويني، الذهبي، السبكي، فولتير، محمد إقبال، النورسي، حسن الشافعي، وغيرهم.

ومع شعور القارئ بالانتقال الزمني المفاجئ من فصل إلى آخر، إلا أن التركيز على تاريخ الفكرة والنطاقات التي تتحرك فيها قد مثل جامعًا مهمًا لهذا الشتات.

——-

المصدر: الجزيرة