د. ياسر عبد التواب
لاهمّ إنَّ الْعَبْدَ يَمْنَعُ … رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ … وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ

(عبد المطلب بن هاشم)

 

أنظر من شرفة ” الفيلا” فأراه ! لقد كبر الفتى، يمشي مشيته الرياضية كما ألمحه أحيانا، نسمة الخريف تداعب شعره، وتبرد صلعتي، وتصك قدميّ؛ بينما الطريق خال إلا من كلاب تطارد قطا يفر صاعدا على شجرة أمام ” الفيلا”، أناديه – الفتى – فينظر إلي بفضول مندهش، ثم يلبي مسرعا وينظر من أسفل، فأشير إليه ليلج!

فأقابله عند السلم ..، وأنا أحافظ على مسافة بيننا: من فضلك أحضر لي تلك الطلبات من البقالة القريبة،

وأنقده مبلغا من المال! أقصد أقذف إليه ورقة الطلبات، مطوية مع ورقة نقد ثمينة!

أتراه يستجيب أم يأخذ المال ويختفي؟

**

يجلس الطبيب الشاب (خليل) في غرفة الاستراحة الضيقة العطنة، متدثرا بثوبه في لحظات التقاط الأنفاس! يفتح النافذة المرتفعة، ويستنشق الهواء البارد، ويرشف كوبا دافئا، ويجلس في تلذذ محاولا نسيان تعبه، وهو يتأمل القفاز المهتريء الذي خلعه للتو، فوق المكتب المعدني المريض بالصدأ أمامه!

الباب يفتح بإرهاق، ويرتمي زميله (علاء) جواره، مادا رجليه، كاشفا الكمامة التي جعدت بشرته من طول ارتدائها، ويخلع مسماعه الطبي جواره؛ ورغم شبابه بدا مسنًّا في ضوء المصباح الكسيف، المشنوق فوقهما! قال:

 (بروتوكول) متابعة الحالات مرهق؛ وإمكاناتنا محدودة، وأعداد المرضى متنامية، ومع ذلك حالات الخطر محدودة لدينا الحمد لله، بينما الأخبار تبدو متضاربة من دول شتى عن سبل الاكتشاف وطرائق العلاج والنصائح العامة والخاصة،

  • خليل: كلهم يخمنون، والعلاج (إمبريقي) بامتياز، ولم نجد أي اختلاف في الخدمات التي تقدمها دول تدّعي تميزا طبيا، كلهم يعانون، ويجربون؛ دون نظام واضح، ثم ابتسم وهو يقول: (فالحين) فقط في إطلاق الأسماء!

ضحك علاء: وهذا الوباء رغم اختلاف مكوناته من مكان لآخر يطلقون عليه كوفيد 19 لأنه ظهر عام 19! ووفقا لهذا دعنا نطلق على كوفيدنا نحن ” كوفيد مائة ” فنسبقهم ليسوا أحسن منا، والحمد لله أن نوعية الفيرس لدينا أقل شراسة، وأن النجاة منه بالعلاج أيسر من غيرنا! وهذا في ذاته مريب نوعا ما

يفرغ له خليل كوبا آخر ويناوله: تلك طبيعة الأحداث الكبرى! تحتاج فترة لتستعيد التوازن، ثم نظر بعينين مدققتين: أما زلت تعدها مؤامرة؟

  • نظر علاء إليه مرهقا: نعم، حتى المبالغات في الأعداد، والإجراءات أراه جزءا من المؤامرة الدولية، أو ركوب الموجة إن أردت تعبيرا آخر! يمكن أن نقول هذا نوع من الصياغة العالمية لاستبدال النظام العالمي والاقتصادي والاجتماعي الحالي!
  • ادعاء المؤامرات يُظهر الشخص بمظهر الحكيم والعالم ببواطن الأمور! من السهل ادعاء ذلك! والعجيب أنك تقول هذا رغم كل ما نراه ونقوم به؟! إن زميلنا رامي في العناية المركزة رغم شبابه البادي!
  • هز رأسه أسفا ثم استكمل: وهل يمثل هذا فارقا؟ نحن تروس في آلة، يتم التحكم فيها من أعلى!
  • خليل: تقصد أن ثمة تعمدًا لنشر الفيروس في بلادنا؛ من خلال شخصيات أو جهات منتفعة ومن الداخل أيضا؟ أنت تبالغ جدا!
  • علاء: دنيا البشر ملأى بالمؤامرات – حتى بين سكان البلد الواحد – إلى حد أن دعاوى كثيرة ظهرت في الحرب الأهلية الأمريكية عام 1816 يتهم فيها جميع الأطراف بعضهم باستخدام “الجدري” سلاحًا ضد الآخرين!
  • خليل: لكن نحن نختلف، ليست تلك ثقافتنا! نحن بيننا ترابط وتراحم مهما بلغت قسوة البعض، لكن مبادئنا غالبة في النهاية!
  • علاء: ربما.. وربما كانت مؤامرة خارجية خرجت عن السيطرة، فطالت البشر كلهم، أو لعله بلاء عم دون أسباب واضحة، لا أدري!

نظر لأعلى وكرر: حقا لا أدري، لكن ما نراه آية ربانية حقيقية: كيف أن هذا العالم من أقصاه لأقصاه تتوقف حياته وحركته وتدفقه بمثل هذا الفيروس الضعيف الصغير أحادي الخلية، حتى لو هندسه وطوره البشر!؟

  • خليل: نعم حق للجميع أن يتحيروا، فكل المعلومات تخلص إلى تصورات ثلاثة: إما أن الفيروس انتقل من حيوانات مصابة إلى البشر في الصين ثم انتشر؛ وإما أن هناك تجارب على عقارات، أو على أوبئة، وخرجت عن السيطرة، أو تم نشره بشكل متعمد وتسرب الفيروس إلى البشر، ثم انتشر! وهو ما يتبناه البعض ويتهم به الصين؛ والتي بدورها ترد بأن حربا بيولوجية تشن عليها من خلال نشر الوباء عمدا في بلادها! ثم تدفق تلقائيا لغيرهم وهذا التصور الثالث؛ وهو يشير إلى دول أخرى من مصلحتها أن تشغل الصين، وتؤخرها عن الركب لسنوات كأمريكا، أو قوى أخرى تريد نظاما بشريا جديدا، تتحكم فيه الشركات الكبرى كوريث للنظام العالمي الحالي! وربما خرج الأمر – وفقا لهذا التصور – عن السيطرة كذلك!
  • أخذ نفسا عميقا وصمت برهة ثم أردف: وفي كل الأحوال فإن عموم الاتهامات لا تغير من الحقيقة التي ذكرتها بأن الله تعالى ابتلى البشر بهذا البلاء؛ سواء بأن أملى لبعض البشر أن يجربوه، أو يضطهدوا به غيرهم؛ أو أنه بلاء حل بسبب ما طغى به البشر جميعا؛ ليعلموا أنهم أضعف وأصغر كثيرا مما ظنوا، إن ربنا يملي للظلمة ويختبرهم
  • وإذا شاء أخذهم أخذ عزيز مقتدر، ربنا يستر ويرحمنا!
  • علاء: الأدهى أن تداعيات خطيرة بدأت تطل برأسها: أزمة اقتصادية ومالية، وأزمات في تسويق المنتجات – وعلى رأسها البترول وهو عصب اقتصاد دول – الأزمة ربما تطيح بدول وأنظمة شتى، بطالة متنامية، وفقر متفش، دراسة تعطل، وآثار اجتماعية مختلفة!
  • خليل: اللهم لطفك، سيجعل الله بعد عسر يسرا، ومن رحم البلاء يأتي الفرج إن شاء الله، يقولون العالم ما بعد البلاء هذا لن يكون مثلما كان قبله؛ فربما تختفي مظالم كثيرة وتنكفئ النظم المتسلطة على نفسها، وتكف عن دعم العملاء والخونة في بلاد مستضعفة، وتتنسم الشعوب المقموعة شيئا من العدالة والحرية!
  • علاء يهز رأسه في أسى: نسأل الله ذلك؛ وخاصة ونحن في بلادنا نعاني مشاكل شتى! فزيادة تلك الجرعة من الحوادث وتوابعها سيجعل المشكلات تتفاقم!

خليل: لكل شيء نهاية، والدنيا دار اختبار ..

**

ونظرة تشفٍّ تطل من عينيه انتهى من سكب ما بيده في دلاء الماشية، وانصرف حذرا! وفي الصباح وجد جاره مواشيه الثلاثة مسجاة أمامه، ونظراتها الخاوية لا تخبره بشيء، وثوب الستر ينحسر عن جسده غير مصدّق!

***

  • أين أنت ولِـمَ لا تأتي؟
  • معذرة يا سيدي، أنا محصور بالقرية، ويمنعون الخروج!
  • أيها الملعون! إن الناس يتحركون في الشوارع بشكل طبيعي، فما الذي يمنعك أنت والخادمة من المجيء؛ بل وكل الخدم والسائقين والبواب؟!
  • لا أسمعك جيدا يا سيدي؛ فالخطوط مهتزة هذه الأيام!
  • تعال لا عذر لك، إن لم تحضر فسأفصلك من العمل!
  • سأحضر سيدي؛ إن وجدت أي سبيل للانتقال!
  • تصرف، واحضر؛ فلا يوجد من يخدمني هنا!

أغلق الهاتف..  وأنا أشعر بالعجز، عندي المال، ولدي من الصحة ما يمكنني من التجول والتنزه في الأوقات المسموح بها؛ ولكني أخشى من العدوى، ولا أرغب في الحركة! والمال الذي أملك منه الكثير لم يفدني حين احتجت للناس! حتى شبكة العلاقات والمعارف المهمون لا أرضى أن أطلب منهم المساعدة؛ فالتعامل معهم له حساباته وأثمانه، أعيش ارتباكا رغم سلاسة أموري سابقا، كيف هذا!

**

أراك عشرة وليس واحدا!

“سنحاريب” [1] هو من أمر بهذا؟

أدار الطبيب رأسه في قلق وهو ينظر إلى الأجساد التي تتلوى أمامه! إنهم جميعا يقيئون ويلهثون ويهلوسون!

كان يشك بسبب الأحداث المتلاحقة؛ لكن لم يكن يعرف وقتها أن هناك من سمم آبار الماء بفطر (مهمان الجودر)! فلن تغير المعرفة نتيجة أن سكان المدينة من حوله ينهارون!

**

  • علاء يتأمل الكوب أمامه وبعد صمتٍ يقول: لكن لا مرية في أن البشر تعاملوا بقسوة ووحشية مع أعدائهم عبر التاريخ؛ من بني جلدتهم أو من غيرهم! إن جرائم تمت عبر الزمن عكست تلك البشاعة بشكل لا تتخيله، على سبيل المثال في الحرب العالمية الأولى التي قتل فيها من البشر أكثر من أربعة وخمسين مليونًا يقول المؤرخون إن الأعداء استخدموا فيها (الجمرة الخبيثة والكوليرا) ضمن أسلحتهم!

وبخلاف هذا وفي أوقات لاحقة تمت الإشارة إلى فطريات القمح كسلاح سبق تطويره لتهديد الأمن الغذائي!

كذلك قيل إن الألمان نشروا الطاعون في روسيا، وواجهت ألمانيا اتهامًا بإرسال قطعان من الماشية مصابة بالحمى القلاعية إلى الولايات المتحدة الأمريكية!

خليل: وتعرف طبعا أن التاريخ يكتبه المنتصرون! ولقد تعمدوا إلصاق كل الجرائم بالألمان وكأنهم البرآء دونها.

  • علاء يرتشف من المشروب الدافئ ويبدو متحمسا وهو يضيف: قائمة التهم شملت أيضًا محاولة إصابة خيول الفرسان الفرنسيين بفيروس جديد، ومحاولة نشر الكوليرا في إيطاليا. بينما تجد بريطانيا قد أجرت تجربة في (أسكتلندا) بالفعل، وجزيرة (جرونارد)، موقع التجربة، لم تزل حتى اليوم مدينةً محرمةً على البشر والحيوان؛ بسبب استيطان الوباء أرضها!

**

اقذف بـ اسم هانيبال العظيم!

وسرعان ما قذفت على السفينة تلك الأجولة، ليجد الأعداء أنفسهم أمام جنود آخرين، أعداء لا تفهم ولا ترحم..  لم يواجهوهم من قبل!

من الصعب أن تقاتل على متن سفينة، وتتجنب سهام الأعداء، بينما الأفاعي تحاول اقتناصك من أسفل!

**

  • وماذا فعلت مع منافسيك يا فريد في ظل تلك الظروف؟
  • أستمع طويلا غير مصدق، وأُهَمْهِم متابعا: هذه أفكار ذكية، لكنه ضرب تحت الحزام على فكرة!
  • أصغي إليه ثم أقاطعه مستنكرا: لا، أنا؟ أنا، فقط أغرق السوق، وأغري العملاء الكبار بالمزيد من المكاسب والعروض، فيجد المنافس الصغير نفسه غريقا يكاد يفلس؛ لأتلقاه بيد حانية، وأخفف عنه الخسارة شريطة أن يخرج من الحلبة!

أف، إنه لشيء مقزز! أولئك الطموحون الذي يريدون منافستنا ونحن السادة! أظنها لعبة

 مباحة! لم أضره بشكل خاص؛ بل ربما نقول أنني أفدت المستهلك، وحميت نفسي بالطبع، وتتعالى ضحكاتي لتشق السكون، في الفيلا الخالية!

**

ثمانية أفيال يقودهم محمود: فيل الملك، يوجهه سائس أبرهة باتجاه الكعبة؛ لكنه يبرك ولا يفلح معه اللين أو القوة، فإن وجهه وجهة غيرها نشط وتحرك!

وجاءت الطير الأبابيل تصد المعتدي، وتعاقب الظالم، فتتساقط أعضاؤهم واحدا تلو الآخر!

**

أين الفرار والإله الطالب      والأشرم المغلوب غير الغالب

نفيل ذو حبيب [2]

**

سأل خليل بقلق: هذه الجرائم البيولوجية كانت قبل الاتفاقات الدولية، وتجريم إنتاج وتخزين واستخدام تلك النوعيات من الأسلحة! أليس كذلك؟

  • علاء: بلى كان ذلك في مؤتمر عقد بجنيف عام 1925 م والذي وقعت عليه 103 دولة! أتذكر هذه المعلومات جيدا لاهتمامي بالأمر ..لكن ظلت تلك الاتفاقات توجه كاتهامات وتهديدات للأعداء فقط كالعادة! واستمر الأمر في الإنتاج والاستخدام بشكل سري، وكانت بسببه مظالم وخطايا كبرى، إن فكرة قتل أعدائك بسلاح قليل الكلفة سريع الأثر لفكرة مفعمة بالأمل!
  • أمل؟!
  • أضاف علاء وكأنه لا يسمع: أما في أمريكا فحدث ولا حرج! فبينما كانت تعد قوائم تتهم فيها دولا كثيرة باستخدام الأسلحة البيولوجية وتجهيزها إلا أنها نفسها اتهمت باستخدام الأسلحة الكيميائية والجرثومية في حربها ضد فيتنام وكوريا الشمالية.. تجارب ضخمة وتجهيزات كبيرة لتلك النوعية من الحروب جعلت خبراء دوليين يتهمونها بالتجهز لإبادات بشرية عاتية، بل وحددوا موقعًا في ولاية (أركنساس) تتم فيه تلك التجهيزات لتطوير بكتيريا (التلريات) التي تنقل العدوى من القوارض للإنسان، وكان مستودعًا لجميع الأسلحة البيولوجية المعروفة فترة الستينات ، ولم تعلن الولايات المتحدة عن تدميره إلا عام 1972.

 قائمة طويلة لم يثبت منها الكثير من التهم بسبب التكتم والتهديدات ؛ لكنها تؤيد تخوفات كثيرين وأنا منهم

  • تحمس خليل فقال: وأنا أعرف أن ضحايا العالمية الثانية كانت أشد فظاعة وأكثر دموية واستخداما للأسلحة القذرة؛ رغم الاتفاقات والتعهدات؛ وضم لذلك استخدام القنابل الذرية، وسمعتها السيئة، والتي قتلت مئات الآلاف من اليابانيين! لكن الذي حدث من الدمار يجعل الناتج الإجمالي لقتلى الحرب مائة مليون من البشر مدنيين وعسكريين ومتأثرين لاحقا!

أومأ علاء في انتصار مشيرا بيده وكأنه يخطب: فهل تتوقع أن استخدام أسلحة الدمار الشامل – ومنها البيولوجية والجرثومية – كان بعيدا رغم كونه متكتما؟

أجاب خليل شاردا: يا للقسوة، عندما تغيب المبادئ والأخلاق ستجد إيغالا في الجرائم، إن مجرد تصور ذلك يثير الهلع!

**

مدينة “كفا” بشبه جزيرة القرم، يسمونها (فيدوسيا) وتقع على البحر الأسود: مدينة صغيرة وجميلة وسكانها مسالمون، وهي ميناء ومنتجع تعبر السفن منه إلى دول شتى، وهذا ما تسبب في إشكاليات لها دوما!

لو نظرت من أعلى فستجد مسارات ستة لمجموعات تتحرك في وقت واحد في جنح الظلام، دعنا نقترب قليلا لننظر ماذا يحمل هؤلاء المغول؟

لفافات كبيرة الحجم هي، الغريب أنهم يبدون كمتسللين؛ رغم تجنب الناس مواجهتهم لما عرفوا به من شراسة ودموية!

انتهت المهمة بتورية الجثث التي يحملونها في المزارع وخلف البيوت! وحان دور المهمة الأصعب، من سيكشف تلك الجثث بكل حذر؟

ويحتاج الأمر لشراسة القادة ليرضخ بعض الجنود!

أتبعوا ذلك بقذف جثث أخرى بالمنجنيق بأمر (جاني بيج) حفيد (جنكيز خان) لينتشر الطاعون في الجزيرة، ويعبر بعدها لأوروبا؛ ليقتل ملايين البشر! حتى قيل إن نصف سكان أوروبا قتل بسبب هذا! وهو ما فاق ما قتله المغول، والذي بلغ أكثر من 40 مليونا من البشر!

**

  • شريف: هل تقاطعني يا بني؟
  • معذرة يا أبت! يطلبون منا لزوم البيوت، والحد من الحركة هذه الأيام!
  • لكني أعلم أنك تذهب للشركة، وتمارس مهامك!
  • حضرتك الذي تحب ذلك لأتابع أعمالنا!
  • ثم بعد ذلك تحضر إليّ لأراك وترعاني، لاحظ أنني لم أطلب رؤية أحفادي مراعاة للظروف؛ ثم بيتك الذي اشتريته لك قريبا من بيتي يا بني ما الذي يمنعك أن تجتاز بضعة شوارع لتطمئن عليّ؟
  • بتردد: سأحضر يا أبت بالطبع لكن “جي جي” تأبى علي؛ خشية علينا جميعا أنت والأولاد!
  • وهل “جي جي” هي من تتحكم في حياتك، وتأمرك بترك أبيك؟

****

الأطفال يلهون في قرية صينية بينما يرون طائرات تقذف شيئا ما قريبا منهم! طائرات اليابانيين! وسرعان ما تواثبوا والفضول يحدوهم؛ ليعبثوا بتلك الأجولة!

من يخبرهم في تلك العمر الغضة أن اليابانيين أعداء؟! ومن يحذرهم من تجنب جوالات البراغيث التي قذفت، وقد راودهم الفضول ليعبثوا بها! ومن يجنبهم وقراهم المتجاورة وباء الطاعون بعدما أصابهم وجميع سكان قراهم؟

**

قال د علاء ببطء وهو يتأمل الأشجار في حديقة المشفى: حتى الدين نفسه استغل ليضفي قداسة على الأفعال الهمجية وإبادة المدن وقتل الأبرياء بغير حق؛ فجأة تبرز المؤامرة كهزيم رعد مرعب، يكشف عن أمراض شيطانية ترتدي عباءة الطهارة والتبتل؛ وهي نجاسة وخسة؛ فعل ذلك بشر كثيرون!

خذ مثلا – ومد أصابعه يعد عليها – من قديم شاعر ورجل قانون من أثينا يُدعى سولون، قام بتلويث المياه الواصلة إلى مدينة (كيراه) بنبات (الزين السام) فتأثر سكان المدينة بذلك ومات منهم كثيرون!

وعد ثانيا مضيفا: وكما أن نشر الأمراض بشكل أو آخر استخدمه الصليبيون ضد المسلمين في الحروب الصليبية، وعد ثالثا: حتى في اليابان – ولها تاريخ كدولة في تلك الحروب البيولوجية – نجد جماعة “أوم شينريكيو ” اليابانية حاولت الحصول على فيروس “الإيبولا” من زائير عام 1992. ثم حاولوا عام 1994 رش الجمرة الخبيثة من قمم المباني في العاصمة “طوكيو”، لكنهم فشلوا في الحالتين!

 وأكمل دون عد: وفي الولايات المتحدة – وفي منتصف الثمانينيات – وتحديدا بولاية “اوريغون” الأميركية، قام اعضاء في طائفة دينية تدعى «شري رجنیش» بتلويث عدة مطاعم ببكتيريا السلمونیلا؛ لينقل على أثرها اربعون شخصا للمشافي في حالة خطرة؛ ثم اكتوت بالجمرة الخبيثة عام 2001 إذ أرسل مجهولون رسائل بريدية ملوثة لأفراد عشوائيين؛ محاولين إلصاق التهمة بالمسلمين. كانت تلك أول مرة تتعرض الولايات المتحدة لهجوم من هذا النوع، لكنها تداركته سريعًا بعد وفاة 5 أفراد فقط!

**

حلب مرة أخرى، لم تكن تلك أول مرة ألقي حمولتي إنها طلعة من ضمن 161 طلعة قذفت بها أنا والزملاء، مرات غاز السارين ومرات الكلور أو عنقودية!

لا فرق! حلب وغوطة دمشق وإدلب..  الأمر أشبه بنزهة!

في فتوتي شاركت في حصار حماة متطوعا – وكانت أيامًا – حاصرنا المدينة، وصفينا المتمردين والخونة/ وكنت وقتها خلف القوات البرية، وقتل من سكان المدينة حوالي أربعون ألفا في عدة أيام، بقيادة رفعت الأسد [3]

اليوم مهمة أخرى ممتعة! ربما أختم بها سجلي الحافل في خدمة الحزب، وخدمة حلفائنا الروس والإيرانيين ، إنهم يستحقون هذا!

  • أهل البلد؟
  • إنهم خونة ومتمردون!
  • أطفال؟
  • لم أتعمد قصف الأطفال، ولكن دعنا نحرقهم جميعا، أو نحرق قلوب آبائهم عليهم!
  • إنهم حملوا السلاح ضدنا… فماذا نفعل؟
  • لم نقتل حتى اللحظة إلا حوالي خمسة آلاف! وهناك أضعافهم ممن تأثروا ثم نجوا!
  • أين نحن ممن قتل آلاف العزل في ميادين الثورات، أو الذين أبادوا ملايين في حروب عالمية؟ فانظر لرحمتنا وعدالة قادتنا!

**

  • د خليل: من اطلاعي أجد نصوصا موغلة في الانتقام والإساءة للبشر، موجودة في التوراة والإنجيل، قام بتشغيل جهازه اللوحي وهو يتأمل سقف الحجرة، ثم تلا نصوصا منه: جاء في سفر التثنية: فضَرْبًا تضربُ سُكان تلك المدينة بحد السيفِ، وتُحرمُها بكلِّ ما فيها مع بهائمها بحدِّ السيفِ، واجْمَع كل أمتعتها إلى وسطِ ساحتها، وتحرق بالنار المدينة وكل أمتعتِها كاملة للرب إلهك، فتكون تلًا إلى الأبد لا تُبنى بعدُ!
  • أردف خليل وكأنه يسأل نفسه: ولكن هل يعملون بتلك النصوص الدينية الدموية حقا؟
  • علاء بحماس: نعم بالطبع! فنحن أمام دولة تدّعي التزامها بهذه النصوص، وتستمد وجودها من تطبيقها، وهو ما طبقه علماؤهم في واقع الحياة – ألما وانتقاما وجرائم – فتجد الكاهن الأكبر للكيان اليهودي: “إبراهام شابير” في رسالة وجَّهها لمؤتمر شبابي صِهْيَوْني، عقد في “بروكلين”، في الولايات المتحدة: نريد شبابًا يهوديًّا قويًّا أو شديدًا، نريد شبابًا يهوديًّا يدرك أن رسالته الوحيدة هي تطهير الأرض من المسلمين! الذين يريدون منازعتنا في أرض الميعاد، يجب أن تثبتوا لهم أنكم قادرون على اجتثاثهم منَ الأرض، يجب أن نتخلَّص منهم كما يتم التخلص من الميكروبات والجراثيم!
  • وأردف في استمتاع: هل ذكرتك الجملة الأخيرة بشيء؟
  • بالطبع!

واستمر خليل في القراءة تاليا: والحاخام “شلوموا إلياهو”: الحاخام الأكبر لمدينة صفد، الذي كتب مقالًا يقول فيه: “لا توجد أية مشكلة أخلاقية في سحق الأشرار.

  • بل إن سياسيين اشتركوا في تلك الثقافة وقديمًا قال “مناحيم بيجين” في كتابه “الثورة”: “ينبغي عليكم – أيها الإسرائيليون – ألا تلينوا أبدًا عندما تقتلون أعداءكم، ينبغي ألا تأخذكم بهم رحمة، حتى ندمر ما يسمى بـ”الثقافة العربية”، التي سنبني على أنقاضها حضارتنا”. وقال أيضا: “الفلسطينيون مجرد صراصير، يجب سحقها.
  • أما في الإنجيل فهناك أيضا نصوص كثيرة منها مثلا: ” لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لِأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا. فَإِنِّي جِئْتُ لِأُفَرِّقَ الإِنْسَانَ ضِدَّ أَبِيهِ وَالاِبْنَةَ ضِدَّ أُمِّهَا وَالْكَنَّةَ ضِدَّ حَمَاتِهَا ” ( متى 10: 34- 35)
    إله المحبة يقول أنه جاء ليُلقى سيفًا على الأرض وأن يفرق بين البشر وحتى بين أقرب الناس لبعضهم!
  • “أَمَّا أَعْدَائِي أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي”   (لوقا 19: 27)
  • أضاف وهو يغلق الجهاز: سبحان الله أين تلك التعليمات من الإسلام حين أمر بالإحسان في كل شيء؟! حتى في القتال لما أذن فيه بأضيق الحدود،وحرم قتال غير المقاتلين، وراعى كبار السن، وحفظ حقوق الأطفال، والنساء؛ بل والأشجار والحيوانات في الحروب؛ فضلا عن تعمير الأرض، وتنمية الحياة في السلم والأمن!

**

الفتى أحضر الطلبات وشعرت بالألفة وأنا أدعوه إلى كوب من الشاي الدافئ!

الثقة تتنامى فيه بعدما ثبتت أمانته

  • هل تعمل يا سليم ؟
  • أنا أدرس الهندسة!
  • ما شاء الله.. أليس والدك هو الأسطى الأشيب هذا؟
  • بضيق رد: نعم هو “الحاج علي” تعب علينا نحن أبناءه الثلاثة، فتخرّج أخي الأكبر من سنوات، وأنا على وشك، وأختي ندرس!
  • جميل جميل، ولففت مبلغا من المال، ووضعته له في جيبه وأنا أقول: أتعبتك معي!
  • تغير وجهه وهو يرده بلطف: عفوا سيدي! تربينا على خدمة جيراننا، ولا نتقاضى أجرا على ذلك!

**

تقدم مندوب القائد البريطاني ليسلم على رئيس القبيلة الهندي “بلاديف”، وبابتسامة لبقة صافحه وقال: يبلغكم قائدنا سلامه واحترامه!

نظر إليه رامو بتوجس: أبعد كل هذا، وما أحدثتموه في بلادنا وقبائلنا؟

  • فلنبدأ صفحة من الصداقة والتعاون، ولقد أرسل إليكم هدية رمزية؛ تعبيرا عن الرغبة في التعاون!

ثم أخرج إليه الهدية وناولها إلى مساعديه في فخر، قماش وأردية جميلة تثير الإعجاب فيما بعد نشروها بين قادة القبائل؛ لينتشر “الجدري” بينهم، وبين جنودهم، وكثير من رعاياهم وضعضع بذلك قوتهم، وشغلهم بأنفسهم!

**

جلسا مرة أخرى بعد فترة من العمل الشاق، د. علاء لا يكاد يرى أمامه!

نزع كَمامته، والتقط شطيرة من كيس أمامه، وناوله واحدة وقال: أعدتها لنا زوجتي؛ لا تخف فنحن حذرون في إعداد طعامنا وتعقيم أكياسه؛ غقبى لك أن يكون لك زوجة وأسرة!

تناولها خليل شاردا وقال: هل علمت أن مدينة ووهان الصينية معقل فايروس “كورونا”، هي موطن المختبر الوحيد المُعترف به رسميا في الصين، والمعلن عنه كمكان للتعامل مع الفيروسات القاتلة؟ وتواترت أقوال الخبراء مؤكدة أن المختبر يرتبط ببرنامج سري صيني للأسلحة البيولوجية، ويقع على بعد عدة كيلومترات من سوق المأكولات البحرية التي تقول الصين إنها منشأ الفيروس!

  • هذا يؤيد شكوكي التي نقلتها إليك!

**

بدأت أميل نحو ذلك الفتى (سليم علي) جاري، مهندس المستقبل الودود!

إنه يمر بي يوميا؛ يسألني إن كنت أريد شيئا! ورغم أني أكلفه بشراء ما يحلو لي – ولو من أماكن بعيدة – فإنه لا يزال يرفض أي مقابل بعد ذلك!

أستغرب هذا..  اعتدت أن لكل شيء ثمنا؛ لكن هذا الفتى لا يُشترى!

أشعر بضآلة أموالي أمامه! ما الفائدة منها إن لم تعززني أمام الآخرين!؟

هل تسمعني يا فريد؟ هل تدرك هذ الشعور يا صديقي؟ بالمناسبة ماذا فعلت مع العمال لديك؟ إن شريف يهددهم دوما بالخصم والعقاب؛ لكي ينتظم العمل، ولا يتوقف! إنه ينقل لي عجزه عن كبح تمردهم؛ حتى اضطر مستخدما علاقاتنا لجلب قوة من الأمن للسيطرة عليهم!

**

  • لقد مات رامي، قالها علاء، وأجهش بالبكاء!
  • ربتُّ خليل على كتفه: يرحمه الله تعالى!
  • لديه ثلاثة أولاد وأمهم.. من يدرك حجم المصيبة؟
  • مسح خليل دمعة حزن بللت كمامته، وبدا كأنه الأكبر عمرا وتجربة، وهو يقول: نحن مقاتلون في أرض معركة ،ككل الجنود الذين يدافعون عمن وراءهم من الأبرياء والبشر! فهل ترانا نرى أنفسنا منعزلين عما يصيبهم من الشدائد؟ إنه واجبنا نؤديه بمسؤولية وحتى مع ضعف الإمكانات، والتهاون في توفير أدوات الحماية!
  • أجهزة العناية والتنفس الصناعي بها قصور شديد! ولا ندري أي كوارث تنتظرنا إن تفاقمت الأعداد! إن الإهمال في تهيئة أجواءَ مناسبة وآمنة للعمل يجعلنا نضج بالشكوى ولا فائدة، وحتى تشخيص الحالة، وسبب الوفاة لرامي كتبوه أزمة قلبية، لا أدري لماذا؟
  • حتى لا يكلفهم أية مسؤولية لاحقة من تعويضات والتزامات يا صديقي! تلك طبيعة الأحداث وتسلط الأنظمة.. مع الأسف!
  • إن دولا أوروبية بل وأمريكا نفسها تطلب أطباء لمواجهة النقص لديهم، ويدفعون أموالا لا تقارن..
  • كانوا من قبل يرفضون استقبال الأطباء العاديين؛ أما الآن فبكل نفعية يفتحون لنا، فهل لو أتيحت الفرصة الآن تسافر؟

**

اسمه (داكوتا) يطلقون عليه هندي أحمر! كل جريمته أنه قبل ثوبا كهدية من القائد الإسباني “بزارو” وكان ملوثا بالجدري، فانتقلت العدوى، وانتشرت في بقاع شتى من أمريكا الجنوبية، ومات من جراء ذلك ملايين منهم!

وبشكل مماثل في عام 1767  أباد الانجليز بضع قبائل من الهنود الحمر في “أوهایو وبنسلفانيا” في أميركا؛ عن طريق تزويدهم بملابس ملوثة بالجدري!

**

  • نجلس في شرفة الفيلا، وقد أزلت تحفظي رغم فارق السن. كنا نشرب مشروبا دافئا أصر هو على إعداده؛ فإن الخدم لم يأتوا بعد؛ حتى ابني مر بي لدقائق، وانصرف دون أن يجالسني، الجو ربيعي غائم، والهواء متوسط، ولذا فضلت أن نجلس في مكان مفتوح تجنبا للعدوى! واخترت تلك الشرفة المطلة على الحديقة في الطابق الأول؛ فهي قريبة من أحواض الزهور التي أرعاها أحيانا، وأحب أن أراها.. جلسنا على كرسيين فاخرين مزينين من عصر ” الروكوكو”!
  • قال تنسيق الزرع لديك بديع ما شاء الله، ويبرز الجمال الرباني الذي متعنا الله تعالى به في الحياة، انظر للألوان الورود وتنوعها، وبجوارها شجرتان مدهامتان ببسوقهما وجمالهما، ومن الخلف شجر ملون عريض.. روعة الخلق الجميل ترشدنا لجمال الخالق ورحمته؛ فكيف بما أعده الله لنا في الجنة؟
  • كأنما غاظني التفاته عني قلتُ: أنا سافرتُ أغلب بلاد الدنيا، وتجولت في كل معالمها تقريبا.. رأيت معالمها الأثرية، واستمتعت بمناظرها الطبيعية، وأقمت في أفخم فنادقها وجلست في نواديها وتجولت في أسواقها، فكل عام لي رحلتان!
  • ابتسم وقال رحلة الشتاء والصيف!
  • لم أفهم مراده، لكن أخرجت صورا لي هناك، وناولته واحدة واحدة!
  • أمسك بها متأملا في فضول: جميل!
  • هذه قلعة “كورفن” في إنجلترا، زرتها صيفا بالطبع، فإنجلترا رائعة في الصيف! والحقيقة أن القلاع الإنجليزية تعد أعجوبة في الهندسة المعمارية الجميلة، فلم يتم بناؤها فقط لتكون حصونا، وإنما كالعديد من القلاع الاوربية بنيت لغرض سكن الأمراء الإقطاعيين بها، ولم أكتف هناك بزيارة القلاع بالطبع، ولا نصب”ستون هينج” وإنما لم أترك شيئا من معالمها إلا وتجولت فيه؛ حتى الأسواق والمتاحف والمكتبات، وقطعت طولها وعرضها من لندن وليفربول وحتى ليدز وبرايتون على الساحل الجنوبي!
  • فضوله يخف، وهو يتصفح الصور واحدة تلو الأخرى!
  • أردت إبهاره أكثر فقلت: لقد تجولت في دول شتى لأشاهد حضارات قديمة مثل (الإنكا) و(البرثينون) رمز الديمقراطية في اليونان، وفي المنطقة العربية زرت مدينة (بترا) المحفورة في الحجر الرملي الملون، في صخور جبال وادي موسى الوردي، ولذا سُميت بـالمدينة الوردية، وبعيدا رأيت سور الصين العظيم، ومعالم هذا البلد الكبير العريق البعيد عنا، والذي يجمع بين الحضارة الحديثة والقديمة في تناغم فريد؛ وكنت أتجول في أسواقه ومدنه المتخصصة (للبزنس) مع السياحة أيضا؛ لذلك رأيت الكثير في (بيجين) و(شنجهاي) وركبت مركبا في نهر (لي كروز) ورأيت كهوف (موقاو) التي يطلقون عليها كهوف الألف بوذا و..
  • قاطعني وهو يقول بتأدب: يبدو أنك زرت معالم كثيرة في الدنيا فعلا، وتجولت في معابدها، وطرقها لكن هل رأيت معالم إسلامية؟
  • باهتمام أخرجت له مجموعة من الصور، ومددت يدي بها: طبعا فهذه صوري أمام تاج محل في مدينة (أغرا) بالهند، والذي تم بناؤه بالعديد من الرخام والأحجار الكريمة، وبناه الإمبراطور المسلم (شاه جاهان) كنصب تذكاري لزوجته (ممتاز محل)، والتي ماتت في شبابها على ما أذكر!
  • علق وهو يتهيأ للانصراف: كنت أقصد زيارات من نوع آخر!
  • سألته وأنا أودعه عند باب الفيلا: أي مكان بالضبط؟
  • أقصد هل زرت مكة والمدينة مثلا؟
  • انصرف وتركني أفكر، في الحقيقة لم يخطر ذلك على بالي!

**

 الفتاة كبرت أمام عيون والديها، في نجازاكي!

في الحقيقة لقد كبر سنها!

رغم أن الحياة عادت لطبيعتها؛ فقد مر زمن طويل على تلك الأحداث، حيث ولدت بعدها، ورغم زواجها لكن أطفالها ولدوا مشوهين، وماتوا بعد قليل!

يجلسان في حديقتهما الصغيرة، تهز الأم رأسها في أسى وتقول: سنرحل قريبا، ولكم كنت أتمنى أن تربي طفلا ترعاه ويرعاها من بعدنا!

  • يتأملها شاردا ولا يرد

**

(حلبجة )..  لا نعرف عنها الكثير وهي مدينة عراقية سكانها أكراد احتلتها إيران سابقا!

والاتهامات متبادلة بين نظام إيران ونظام العراق.. بقصفها بالكيماوي؛ إبان نهايات الحرب بينهما – مارس عام 88- لأن العراق قصف القوات الإيرانية وهي تنسحب؛ فهل أخطأتها أم ضربت لتصيب الجميع فضحت بمواطنيها.. أم أن إيران هي من فعلت هذا؟

قال لي (دارا) صديقي الكردي وهو يتذكر: يطلقون عليها عمليات الأنفال، و”على حسن المجيد” نطلق عليه “الكيماوي” وهو المسؤول عن هذا، أطلقوا علينا الغازات السامة ثم تركونا للجنود نافلة، فنهبوا بيوتنا واستباحوا نساءنا! [4]

مليحة وابنها خليل، كان عمره تسعة أشهر، هربت من السليمانية بعد الأنفال إلى ” كرمنشاه ” الإيرانية؛ لكن “كرمنشاه”  نفسها قصفت أيضا، وهناك فقدت ابنها مع الفوضى، وتبناه زوجان إيرانيان وبعد أن بلغ سن الحادية والعشرين عرف الحقيقة، وقرر أن يبحث عن أسرته، وبعد رحلة عذاب استطاع أن يصل، واجتمعت أمه به بعد واحد وثلاثين عاما!

**

قلت له: أراك يا سليم دائم التوجه في أوقات مختلفة باتجاه الناصية الثانية، ثم تدلف إلى الشارع هناك في أوقات مختلفة من اليوم!

نظر إليّ مستغربا.. فأردتُ إزالة شبهة أني أراقبه : تعرف أني أزجي وقتي بمراقبة الطريق فألاحظ الناس ولم تكن تلك عادتي، لكن الظروف حكمت علينا بتغير عاداتنا!

أجاب بتلقائية: هذا هو طريق المسجد.. ألا تعرفه؟

  • أسررت في نفسي: لم أعرف أن هناك مسجدا قريب، ومع الأسف لم أدخل لمسجد في حياتي ثم قلت له: وهل تذهب للمسجد؟ أليست المساجد مغلقة؟

أجاب بحالمية: أنا أحب المسجد، والمسجد يحبني أيضا، وأذهب لأصلي على أعتابه – حتى لو كان مغلقا – لأجدد عهد حبنا!

– المسجد يحبك؟ كيف؟

– للجمادات شيء من الشعور؛ لذا فهي تحب الطاعات، وتبغض المعاصي؛ بل وتشهد على ما فعل عليها من خير أو شر.. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن جبل أُحد يحبنا ونحبه، كل ما في الكون يطيع ربنا.. لكن على عيني الإنسان غشاوة وغفلة!

جلس معي قليلا، وأصر على مساعدتي لتنظيف المكان، ثم انصرف، كلامه يرن في أذني ويهز كياني…المسجد …الحب …الله !

أتأمل في الزرع وأحواض الزهور.. محق هذا الفتى.. كيف لم ألمح كل ذلك الجمال، وهذا الإبداع، رغم كل مقتنياتي عبر أسفاري، واختياري روائع الفن، واطلاعي على جهود البشر وجمال ما رسموه وزخرفوه، الحقيقة كل هذا لا يداني ذلك الجمال الرباني الفذ من الله الذي يحبنا ونحبه، كيف غفلت عن هذا؟

**

  • خليل: لا طبعا.. أفأسافر لهناك فيتوارى أطباؤهم خلفنا، ويتركونا نحن في مواجهة الأخطار؟
  • لكن ظروف العمل أكثر أمانا هناك؛ حتى وقت العمل نفسه أقل!
  • هل تختبرني يا علاء؟
  • أنا أفكر فعلا في الأمر؛ فالأمر صفقة تستحق التفكير!
  • ها أنت قلتها، صفقة، مجرد صفقة، عرض مالي فقط، وربما رافقه ميزات أخرى؛ لكن نحن هنا نؤدي رسالة! ومن سيؤديها غيرنا؟ من يساعد أهلنا الآن في هذه الظروف؟

**

نظر بعينين ذابلتين إلى زميله، وقال بعد صمت:

كانت حياة بائسة يا رجل .. فهل يدرك شعبنا كم ضحينا من أجله؟

راقب زميله شاشة العمليات الحيوية فوق السرير، وهي تعكس اضطرابا واضحا! وتناول كفه بين يديه وتنهد..

أضاف: كانت أيام، تزاملنا فيها في العراق في التسعينيات، ثم في 2003 وبعدها في (تورا بورا 2006) ..

الزميل: يقولون عدد الإصابات بالسرطان بين السكان في العراق وحدها ارتفع لأكثر من 700 في المائة عن الوضع الطبيعي!

  • وها أنا ذا أقضي بنفس الداء أيضا!
  • الزميل كأنه يحدث نفسه وقال في حرج: هذا أقل جزاء لنا، فاليورانيوم المنضب الذي قذفنا به القرى والمدن هناك في العراق وحدها بلغ أكثر من 350 طنا في أوائل التسعينيات، وارتفعت بعد ذلك لألف وخمسمائة طن! تخيل هذا؟ إنها كمية كفيلة بمحو البشر من ذلك المكان! ولذا فجنودنا – رغم كل الاحترازات – ظهرت آثار اليورانيوم في دمائهم، وأثر على ال D N A لديهم، وهو ما عكس على صحتهم العامة أو أورثهم السرطانات المختلفة!

سعل المريض وهو يقول: قمنا بواجبنا نحو بلادنا.. أليس كذلك؟ وفي أفغانستان بلغت هجماتنا بالقنابل الموجهة بالصواريخ والصواريخ الجوالة توماهوك ضد الخنادق، وأيضا قنابل الخنادق متوسطة الوزن التسعمائة كيلو والطنين، حوالي ستة آلاف قنبلة، وما استخدمناه في بغداد كانت من نوع تسعمائة كيلو جرام! وهذه ربما فيها نصف طن من اليورانيوم! أنت تعلم أنهم استخدموا ما يفوق تسعة عشر ألف قنبلة!

الزميل: هذا ما فعلناه بغيرنا؛ فهل تستغرب بأن نشرب من نفس الكأس!

انفعل وقال: ولماذا نحن وحدنا؟ لماذا أنا بالذات؟ أليس الأولى أن يصاب بذلك الساسة في البيت الأبيض الذين جرونا لكل هذه المآسي؟

**

أشعر بدوار..جسدي منهك .. حلقي يؤلمني.. وصداع متنام يزعجني!

نظرت إلى المرآة الفاخرة في غرفة نومي، أبدو شاحبا، وخداي متوردان أكثر..

أجلس على كرسيي الهزاز المصنوع من خشب البندق!

هل أنا مريض؟ هل أعداني ذلك الفتى!

هذه مشكلة الثقة الزائدة في هؤلاء البسطاء.. يبدو أن (فريد) كان محقا حين حذرني، سيبتزك أو يسرقك، أو يؤذيك بشكل ما! تلك مشكلة هؤلاء المتسلقين، بداخلهم دوما حقد دفين علينا!

أتصل بالخادم : لا يرد!

أتصل بشريف: هاتفه مغلق!

أين أنتم يا حمقى؟ أنا هنا مريض، وأنتم تلعبون؟

لأسباب مماثلة نصحوني بعد وفاة زوجتي بالتزوج ثانية، لكني آثرت الحرية؛ فأكثر البشر محدودو العقلية، ولا يدركون قيمة غيرهم!

لم أجد أحدا ألجأ إليه إلا هذا الشاب سليم.. وترددت!

**

علاء: لقد قررت السفر فعلا.. أردت أن أعلمك، فأنت صديقي حقا!

خليل: بارتباك، وحديثنا السابق عن أدوارنا؟

علاء: الموضوع أكبر من طاقتنا، ولا أحد يعبأ بنا، وكلهم يتاجر بجهودنا، ثم يلقون بنا بعد تجملهم، فنحن والمرضى ضحايا لا أكثر، ميت يعالج مقتولا، انضم لرامي اثنان من فريق التمريض في المدينة .. ماتوا، وكتب في تقاريرهم أن أسباب الوفاة فشل كلوي، أو سكتة دماغية، هل رأيت خسة أكثر من ذلك؟

خليل: فكر جيدا يا د. علاء!

علاء: وماذا عنك؟

خليل: ماذا تتوقع؟

**

د. خليل يربت على كتفي مشجعا من وراء القناع، وبجواره صديقي الشاب سليم علي.. أخوه!

– حمدا لله على سلامتك يا جارنا العزيز، والحمد لله حالتك مستقرة الآن بعد ” كورس” العلاج، وفي حقيقة الأمر أن العدوى قد تنتقل حتى بالخضروات والفواكه، وليس شرطا من خلال إنسان رغم الحجر المنزلي!

وتذكرت لحظات الضعف، ونقمتي، وكيف اهتم سليم، وحضر مسرعا وجلب الإسعاف، واستجاب لطلبي بالذهاب إلى أكبر مستشفى خاص، وكل ما فعلوه هناك أن وضعوني في غرفة فارهة، وهنالك حضر ابني شريف أخيرا! لم نجد بعد أيام من العناء والتعب إلا ادعاء العناية، وليس العناية المدققة! مظاهر فارغة، وتهويل في الشكليات، والأطباء الكبار يتركون العمل لمتدربين.. حتى صار يغشى علي أغلب الوقت من المرض وتوابعه!

هنالك اقترح سليم أن يحجز لنا في درجة المستشفى الحكومي الذي يعمل فيه أخوه.. وهناك وجدت عناية واجتهادًا حقيقيًّا من الفريق المخلص.. الأمر ليس فقط بالمال.. فالمال لا يشتري المبادئ، هذا هو الدرس الكبير الذي تعلمته، بعد هذا العمر، وتلك التجارب تشعرني كأني أولد من جديد..

أفقتُ على صوت سليم يستأذن في الانصراف ونظرتُ له ممتنا:

ستطيب الأمور يا مهندس سليم، وستجد رفيقا إلى المسجد بعدما تنجلي الأزمة..

ابتسم في حبور وهو ينصرف..

—————-

د. ياسر عبد التواب

ليلة هلال رمضان 1441

——

[1] – أحد ملوك الآشوريين – بين القرنين السادس والسابع قبل الميلاد

[2] – زعيم قبيلة قاومت أبرهة في طريقه لمكة وشهد الطير الأبابيل تقذف أبرهة ومن معه وكان أسيرهم لما قاومهم وأخذوه ليدلهم على الطريق وكان كارها لذلك وصعد مع قريش فلما أصابتهم المصيبة ظلوا ينادوا عليه ليعينهم على الفرار فقال تلك الأبيات

 

[3] – يقول الصحفي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان أن رفعت الأسد كان يفتخر بقتله ل 38 ألفا من مواطني حماة!

[4] – هذا موقف حقيقي والعهدة على راويه والموقف الآخر منقول إعلاميا