تعقيب بخصوص طرح مسألة الترحم على المسيحيين إذا كانوا من ذوي الإحسان والمعروف

في أعقاب مقتل الصحفية شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة برصاص الجيش الصهيوني

أثيرت مسألة حكم الترحم عليها بحكم أنها مسيحية المعتقد لكنها واقفةٌ بثغرٍ عظيمٍ في خدمة القضية الفلسطينية؛

ألا وهو تقديم الرواية الصحيحة في الإعلام.

وعقب جولةٍ في وسائل التواصل وقعت عيني على ما يستحق العتب من طريقة التعامل مع هذه المسألة،

وبيان هذا في النقاط الخمس الآتية:

أولًا:

الخبر في سياقه المفترض أن تقوم حملةٌ عامةٌ تُندد بجريمة الكيان الصهيوني إذ يقتل الصحفيين

الذين لا يجوز أن يتصيدوا بحسب القانون الدولي، وأنه بذلك يريد التغطية على الحقيقة وحجبها وحجب من يسعى لها.

وأن يركز على إحسانها وفضلها فيما قتلت فيه، فهي ذكَّرت الناس بأبي طالب، وفي كل أمة أبو طالب.

ففتح ملف الترحم لمن ليس محاربًا في الوقت الذي ينبغي أن تسخَّر الأقلام في مسلكٍ غيره يعد أمرًا بعيدًا عن الصواب.

والنبي صلى الله عليه وسلَّم ما كان يتناول كفر من كانوا معه في شعب أبي طالب،

ولا الذين آزروه في المدينة من أهلها ممن كانوا على الشرك.

وعليه؛

فإن الذي ينبغي أن تردده الألسنة أنَّ اليهود يستهدفون كل أحد يخالفهم ويقف في طريق بغيهم؛ مسلمًا كان أو مسيحيًّا،

بل إنهم يستهدفون الحجر والشجر بالإضافة للبشر، بل حدثنا القرآن أنهم كانوا يقتلون أنبياءهم وهم من بني إسرائيل.

فاليهود محض ضررٍ على البشر، وبالعودة إلى فكرة تأسيس الكيان الصهيوني نجد أن هرتزل بينما كان يشتغل بحل المشكلة اليهودية من خلال إيجاد كيان لهم كان يستغل تضرر الأوروبيين من أذى اليهود كي يُعينوه في هدفه.

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في رأس الحكمة إذ عمل على إجلائهم تمامًا عن المدينة بمجرد وقوع أخطاء منهم.

ثانيًا: اجتزاء التعامل الشرعي:

فإنَّ حكم الترحم على المسيحي هو جانبٌ من رزمة جوانب لا يفهم الحكم الشرعي إلا بمجموعها؛

فقد نص أهل العلم على أن أهل الكتاب غير المحارِبين لهم حقوقٌ منها:

الأمان وتوفير الحماية لهم وعدم قتلهم أو قتالهم أو أذيتهم، وعدم التعرض لكنائسهم.

والنصوص الواردة في ذلك تحسم الأمر حسمًا يقف باب الأذى تمامًا من مثل قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-:

«من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا».

فالعلاقة تقوم على العدل والإحسان، ثم هم إلى جانب ذلك كفار؛

لأنهم يكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلَّم، ويقولون في الله قولًا عظيمًا من مثل قولهم:

إن الله ثالث ثلاثة، وإن الله هو عيسى بن مريم،

وقد قال الله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17] وغير ذلك.

وفصَّلت سورة البقرة وآل عمران والمائدة كثيرًا في أحكام كفرهم.

فتحصل أنَّ لأهل الكتاب حقوقًا، وهم يتملكون الجنسية السياسية بلغة اليوم،

لكنهم من جهة الحكم الشرعي كفار؛ يجب عدم موالاتهم، والبراءة منهم، وتبليغهم دين الإسلام.

والخلط يأتي من عدم الموازنة بين كفرهم والعهد الذي لهم والوفاء الذي يأتي جزاءً لمعروفهم.

ثالثًا: استحضار المسؤولية الدعوية:

فإن أهل السنة والعلم والإيمان هم الذين يعلمون الحق ويرحمون الخلق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، وهم أكمل الناس رحمةً،

ولا يكفي التقصير في دعوة النصارى إلى الإسلام وهم بين أظهرنا وإن كانوا قلة، ثم ننتظر ساعة موتهم لنتولى الحديث عن حكم الرحمة.

فالأصل الشرعي أن نسعى لتحصيل الرحمة لهم قبل أن يفارقوا الحياة الدنيا، وأن نبذل كل جهد في ذلك مع حسن البيان والبرهان،

تحصيلًا للبلاغ المبين والقول البليغ كما قال ربنا لنبيه صلى الله عليه وسلم بحق الكفار:

{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}

[العنكبوت: 18]،

وقال له بحق المنافقين: {وَقلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا}

[النساء: 63].

ومن قرأ مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم عند فراق الكفار وتفلت أنفسهم إلى النار تكاد عيناه تفيضان من الدمع

وهو يرى رقة قلب النبي صلى الله عليه وسلم ومنتهى حرصه على إنقاذ الناس.

ولهذا لا آمن أن يصلنا شيءٌ من العتب الإلهي على تقصيرنا بحق أهل الكتاب إذ لم ننشط لدعوتهم،

كلٌّ بما قدر عليه ويسَّره الله له.

رابعًا: ذم التصدر للفتيا:

في كل قضية يلحظ انهمار سيول المتصدرين للفتيا في أمورٍ تدق،

ويعلم الله أني وأنا المتخرج من الدراسات العليا وأقوى على البحث ومعرفة الأقوال لا أجرؤ أن أبدأ الكلام في هذه المسائل،

فيكفي المرء أن يسأل أهل العلم دون أن يحشر نفسه في المسائل،

ولو سكت من لا يعلم لقل الضوضاء بل لقلَّ الخلاف.

وإشكالية من لا يدري أنه يصرف من يدري عما ينبغي أن يكون المقام له؛

فإنَّ آفة الجهال تقع على غيرهم كما تقع على أنفسهم، فيصير من واجب أهل العلم أن يتكلموا اضطرارًا،

وقد رأيت غير واحدٍ من المشتغلين بالعلم ما ألجأهم على الكلام إلا كثرة الكلام من غير أهله.

خامسًا: من جذور المشكلة:

بعض المسائل ليست إلا تطبيقات لمسائل أخرى أكبر منها، وما نحن فيه من هذا؛

فإنَّ غلبة الأنموذج الليبرالي والمنهج الحداثي أنه يريد تقرير مذهب الإنسانية، وعدم الخضوع لأي ميزان شرعي،

ولهذا يرجون الجنة لكل كافر بل ولكل ملحد، ولو كان يجهر بعدائه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل ولو كان ينكر الجنة ويستهزأ بها.

فتأتي مثل هذه المسألة لتكون أشبه بحال الضحية؛ فلا تعطى حقها من النظر؛

لنزوع الناس لأفكار يريدون استغلال الحدث في تأكيد صوابيتها، وهنا يغيب النَّفَس العلمي.

فكثيرٌ ممن يريد أن يستغفر للنصراني صاحب صنائع المعروف هو نفسه يريد أن يستغفر للنصراني المحارب،

والذي يعلن كفره، بل ولو كان ملحدًا، ويريد أن يخضع أحكام الشريعة لأهوائه المشحونة بالثقافة الليبرالية والعصرانية.

فهذا أقول له: ما فائدة الاستغفار الذي تريد أن تفرضه على الناس إن كان الذي تستغفره ينهي عن الاستغفار ولا يستجيب له!.

إن النبي صلى الله عليه وسلم لما طلب منه المنافقون أن يستغفر لهم نزل قوله تعالى:

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}

[التوبة: 80].

والترحم عبادة،

وهو ليس طقسًا اجتماعيًّا لإظهار حنانك وعطفك وإنسانيتك وبعدك عن التطرف؛ وإنما هو قربة يتعبد بها المولى سبحانه، ولا تكون إلا على وجهٍ شرعي.

وأخيرًا:

أتفهم حال أهل العلم والدعوة الذين تصدوا للكلام في المسألة من زاوية بيان الحكم الشرعي لكثرة اللغط.

بل أتفهم حال من يَسأل عنها؛

لأن اجتماع الخير والشر والصواب والخطأ في موضعٍ واحد مظنة الوهم والزلل،

وقد ورد أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب أعظم من انتفع به النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؛

لجمعه بين الكفر والإحسان؛ فقد جاء في الصحيحين أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي صلى الله عليه وسلم:

ما أغنيت عن عمك؛ فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: «هو في ضحضاح من نار ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار».

ورواية مسلم: قال العباس: يا رسول الله إن أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟

قال: «نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح».

ولكن الأولى تقرير الحكم بأقل عبارة وتوجيه زخات الأقوال والمقالات والمنشورات لاستثمارها في مدافعة العدو الصهيوني، غضب الله عليه ولعنه لعنًا كبيرًا.

هذا وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين

من د. محمد الأسطل

من علماء غزة وفقهائها