• “الديكتاتورية” تحكم العراق منذ احتلال 2003
  • على النظام العربي أن يعيد قراءة المشهد العراقي بصورة صحيحة
  • الانتخابات مسرحية يقتضيها خطاب “الديمقراطية” الأمريكية
  • النظام السياسي بُني على باطل ولا تستقيم معه أية مشاريع إصلاحية
  • العراق يعاني آفة المحاصصة الطائفية والتوافقات السياسية
  • الباحثون عن أدوار سياسية مستقبلا في العراق لن يقتنع بهم الشعب 

مر عقدين من الزمن على احتلال العراق، بعدما قالت الولايات المتحدة إنه يجب تغيير النظام الحاكم في بغداد؛ وفيما كان من بين المبررات الأمريكية وقف انتهاكات حقوق الإنسان، وتحقيق الديمقراطية، ألا أنه لا شيء من ذلك قد تحقق في البلد العربي الذي يعاني من فقدان الهوية وضياع البوصلة.

 

هيئة علماء المسلمين في العراق، إحدى القوى الوطنية العراقية القليلة التي لا تزال ثابتة على موقفها، باعتبار العملية السياسية في العراق منذ احتلال عام 2003 غير شرعية، ولن يكتب لها النجاح، لأنها لم تبنى على أسس سليمة.

معاذ البدري، مسؤول قسم الإعلام في هيئة علماء المسلمين في العراق، يتحدث لـ (جريدة الأمة) في الذكرى العشرين على احتلال العراق، وإنهاء حكم الرئيس صدام حسين، حول الوضع المتشابك في بلاده، ومستقبل العراق السياسي.

 

– مر 20 عامًا على الاحتلال الأمريكي لـ العراق، لماذا لا يزال العراقيون يعانون اقتصاديًا، اجتماعيًا وسياسيًا؟

 

ليس  مستغربًا حين تخضع بلاد ما لسطوة الاحتلال أن تكون على هذه الشاكلة من انهيار المؤسسات وتدهور الاقتصاد وفقدان الأمن؛ لأن الاحتلال بحد ذاته عامل هدم وتدمير ولا يرجى منه نفع أو إصلاح، فكيف إذا جاء بمشروع سياسي يغذي حالة الفوضى ويسهم في إغراق البلد نحو عمق الهاوية؟ 

المشروع السياسي للاحتلال لا ينفك عن مشروعه العسكري، فإذا كان الأخير قد أنجز مهمته مرحليًا وأسهم بشكل مباشر في التدمير والتفكيك وإزهاق الأرواح؛ فإن الأول ما يزال فعالاً، وعليه تقوم كل خطط ومشاريع الولايات المتحدة وشركائها في الغزو والاحتلال، فضلاً عن إسهامه في تغيير نمط الاحتلال من شكله المتعارف عليه والذي تذهب إليه التصورات حينما يطلق مصطلحه؛ إلى احتلال مزدوج حينما منحت الولايات المتحدة إيران صلاحية التدخل والنفوذ التي تطورت لاحقًا إلى تغوّل وتحكم، لتنتهي بعد ذلك إلى احتلال صريح ومعلن يقوم على حالة من التخادم وتبادل الأدوار بشأن المصالح والمكاسب كل حسب حجمه ومساحته على الأرض.

هذا التصور الكلي للمشهد العراقي يعطي مفاتيح الإجابة عن التساؤلات بشأن أسباب معاناة العراقيين على كافة الأصعدة، بحيث بات العراق على طول هذه السنين وفي ظل سلسلة متلاحقة من الحكومات ذات الولاء الأمريكي الإيراني المشترك، والتي بات الفساد والسرقات الممنهجة سمة أساسية فيها؛ يقبع في أدنى مراتب المؤشرات المعنية بالتطورات والحريات وسبل العيش وجودة التعليم وما شابه ذلك، ويتذيل قوائم الدول عربيًا وعالميًا فيما يتعلق بالتنمية والاقتصاد والأمن والصحة، بمقابل تصدره عن جدارة مراتب تشخيص الانتهاكات من اعتقالات وإعدامات وتغييب، ونسب الفقر والبطالة،  وإذا كانت القائمة في هذه السياقات مفتوحة وقابلة لأن يضاف لها كل شيء متاح في المشهد العراقي، فإن الحديث عن واقع الحال الذي بات معلومًا للجميع أشبه بمن يريد أن يعبر عن كل شيء لكن الكلمات لا تسعفه.

بقاء العراق غارقًا في هذه المشكلات في ظل شبه انعدام لأمل قريب ينتشله مما فيه؛ سببه التجاهل المفرط الذي مارسه الرأي العام إقليميًا كان أو دوليًا  –  وما زال يمارسه – للجهود الجادة والحقيقية التي تحقق للعراقيين حريتهم وأمنهم واستقرارهم ووحدتهم، فقد بات الرأي العام مُصرًا في كل مرحلة على دعم تجارب وحلول سابقة أظهرت فشلها بوضوح، دون أن يسعى إلى البحث عن رؤية لحل شامل وكامل للقضية العراقية التي تطرحها القوى المناهضة للاحتلال والعملية السياسية، ومن قبل كانت مطروحة في مشروع المقاومة العراقية التي تُركت في الميدان دون ظهير؛ كل ذلك في ظل غياب الجهد العربي والإقليمي الواعي والفعّال والمحقق للتوازن في العراق أمام الهيمنة الإيرانية.

 

– من وجهة نظركم متى يحل الاستقرار في العراق، ويصبح مثل البلدان المجاورة؟

 

حتى يتحقق ما ذكرتم؛ لا بُد من معاينة معادلة  حل المشكلة العراقية، فهي سهلة التوصيف لكنها تحتاج إلى عمل دؤوب وجهد كبير، هذه المعادلة تقتضي زوال النظام السياسي وعمليته المبنية على المحاصصة الطائفية والعرقية إزالة تامة ممهدة للتغيير، وليست بمجرد معالجات تقوم على تبادل المواقع واستبدال الوجوه تحت ذريعة الإصلاح كما يطيب لكثير ممن يبرر انخراطه في العملية السياسية ودعوته للمشاركة فيها، على الرغم من أن مجريات الأحداث وتعاقب الأيام ما انفكت تظهر بطلان هذه المبررات وفشل محاولات أولئك الذين يبحثون عن الإصلاح من داخل المنظومة، على فرض حسن النوايا.

وحينما يزول هذا النظام، يبدأ التأسيس لنظام حكم معتبر لا يُقصى منه أحد، وتُناط فيه الأمور بأصحاب  الكفاءة دون النظر إلى الطائفة أو العرق ممن يُرتّبون أولويات عملهم وفق المصلحة العليا للبلاد لا المصالح الجزئية والحزبية، ومن هذا المنطلق تبدأ القضية العراقية تأخذ بأسباب الاستقرار الممهد للنمو والتطور، حتى تعود البلاد إلى مسارها القويم مرة أخرى.

وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا لا بُد من التأكيد على أن الواجب الذي يقع على عاتق كل مراقب أو محلل للشأن العراقي؛ يقتضي التأكيد على أن النظام المنشود لإعادة العراق إلى سابق عهده وتسنمه مكانته الإقليمية والدولية المعتبرة؛ يجب أن يُصاغ  وفق  التعددية السياسية ونبذ الاستبداد السياسي ويجعل ذلك أساسًا لبناء الدولة، وأن يضمن استقلال العراق وسيادته بالتوازي مع تعزيز علاقته بدول الجوار والمنطقة بناءً على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وأن يكون مقصده في مراحله الأولى أن يتكفل بحفظ ثروات العراق ومقدراته، وحمايتها من العدوان الخارجي، والعمل على تحقيق التنمية والتطور لمؤسسات البلاد وشعبها على حد سواء، من خلال إزالة آثار الاحتلال، ومحاسبة المتورطين فيما وصل إليه حال العراق اليوم، وإعادة الحقوق إلى أهلها.

معاذ البدري

– كيف تنظرون للتصريحات التي تقول: إن العراق يحتاج إلى “ديكتاتور عادل” مثل صدام حسين؟

 

لا اتفق مع مصطلح “ديكتاتور عادل” لأنه جمع بين متناقضين، فضلاً عن أن “الديكتاتورية” نمط في نظام الحكم في العراق بعد الاحتلال وهي واقع حال جميع الحكومات التي تعاقبت منذ 2003؛ فأحزاب السلطة التي نصبتها الولايات المتحدة وفوّضت إيران للتحكم بها تتعاطى مع المشهد السياسي برؤية أحادية، وبنمط تسلّطي على العراقيين يتخذ من العسكرة والقمع وتكميم الأفواه وسيلة للتفرد بالحكم.

وفي المقابل فإن العدالة واحدة من المطالب الحقيقية والرئيسة في العراق لانتشاله من أزمته الممتدة على مدى عقدين، ولا سيما أن أحد أسباب  تفشي الأزمات وتعقيدها في البلاد؛ هو غياب العدل سواء في القضاء أو في توزيع الموارد والوظائف، أو على مستوى التمثيل السياسي، وحتى على مستوى العقوبات حينما ننظر إلى إفلات المتورطين بجرائم الفساد وجرائم التغييب القسري المبينة على دوافع طائفية، من العقاب، بينما يقبع عشرات الآلاف من الأبرياء في السجون والمعتقلات دون أن يكون أحد منهم قد اقترف جريمة أو مخالفة، وإنما فقط بسبب انتمائه الديني أو الطائفي أو المناطقي، فضلاً عن أحكام الإعدام التي تصدر وتنفذ دون محاكمات عادلة، وفي جلسات تفتقر إلى الحد الأدنى المتوائم مع القانون الدولي وحقوق الإنسان، وهذا بشهادة منظمات ذات صلة بهذا الموضوع، من قبيل منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، وغيرهما.  

 ومما يجب التنبه له في هذا المقام أن مشكلة العراق لا تكمن في الأشخاص ولا المناصب ولا حتى في الحكومات والقوانين، وإن كانت هذه الأمور تعد من ظواهر المشكلة ولوازمها،  ولا نعني هنا أننا نُبرّؤها من جريمة ما حلّ بالعراق منذ احتلاله وإلى اليوم؛ ولكنها في كل الأحوال مظهر من مظاهر السبب الرئيس الذي أودى بالعراق إلى ما هو عليه اليوم، وجعلت من الحديث عن “الديكتاتورية” متنفسًا للخروج من الأزمة؛ لأن المشكلة الأساسية هي النظام وعمليته السياسية المبنية على أسس غير منطقية، وتنطلق من دوافع طائفية وعرقية هدفها في المقام الأول تمزيق العراق وتفكيك نسيجه المجتمعي وإدامة حالة الفوضى فيه.

ما يحتاجه العراق فعلاً، هو منظومة حكم منطقية يكون قوامها التداول السلمي للسلطة بالوسائل المشروعة، ويحظر فيه أي عمل سياسي يعتمد برامج طائفية أو عرقية، في ظل دستور جديد للبلاد، يحفظ حقوق الجميع بعيدًا عن سطوة الاحتلال وأطماع أدواته، ويعالج كل ما أفرزه الدستور المسخ الذي فرضته سلطة الاحتلال الأمريكي وغيّبت فيه إرادة العراقيين ومصالحهم على حساب حمايته مصالحها ومصالح شركائها ، ومصالح الفئات السياسية التي جُندت لتلبية مطالبها.

 

– ما تعقيبكم على إعلان أطراف من خارج العملية السياسية المشاركة بدور سياسي في العراق مستقبلا؟

 

موقفنا من النظام السياسي القائم في العراق واضح ولا يتغير، لأنه نظام بُني على باطل في قالب أعوج لا تستقيم معه أية مشاريع إصلاحية، ولا تُجدي فيه نفعًا أي محاولات أو أدوار حتى وإن تغنى أصحابها بشعارات وطنية، فكل مخرجاته من حكومات وقوانين سوف تكون معوجة بالضرورة، وغارقة في الباطل بلا أدنى شك؛ وهذ مقرر شرعًا، وعقلاً، وقانونًا. 

وأمّا اختيارات الآخرين الانخراط فيه رغم سلاسل الفشل المتلاحقة على مدى عشرين سنة ممن سبق وأن تبنى الطرح نفسه؛ فلا تعنينا بشيء بقدر ما تكشف عن ضيق في الأفق وقصور في الرؤية؛ لأن التجارب المماثلة فشلت كلها، بل وقعت في الشَّرَك منذ خطوتها الأولى، وتلاشت معها كل الإعلانات والوعود التي تم الترويج لها واتخذت من مساقات العاطفة سبيلاً لمحاولات إقناع العراقيين بمستقبل وردي، سرعان ما طغت عليه سوداوية المشهد.

العراقيون الذين أثبتوا في هذه المرحلة أنهم على درجة كبيرة من الوعي، حينما وسعوا دائرة مقاطعة الانتخابات بنسبة بلغت الثمانين بالمائة، وأعلنوا صراحة أن العملية السياسية ومخرجاتها وأشخاصها والقوى والإرادات الخارجية التي تسيّرها؛ هي السبب في انحدار العراق وبلوغ مؤسساته كلها مستوى القاع؛ لن يقنعهم خطاب الوهم بأن حلاً سحريًا سوف يتحقق من داخل النظام السياسي القائم في العراق في ظل الاحتلال المزدوج؛ فقط لمجرد أن فئة أو أشخاصًا يحظون بشعبية ما أو دعم إقليمي معين سوف ينخرطون فيه.

– عودة النظام القديم للانتخاب، هل يعني فقدان المكاسب السياسية الصغيرة التي حققتها تظاهرات تشرين؟

 

إذا نظرنا إلى واقع الحال؛ ليس ثمة مكاسب سياسية معتبرة حتى وإن كانت صغيرة وحققت هدفًا في مرحليًا محدودًا، لأن ما نجحت فيه ثورة تشرين بإسقاط حكومة الاحتلال السابعة برئاسة عادل عبد المهدي؛ ذهب أدراج الرياح بتشكيل حكومة الكاظمي التي سلكت المسار نفسه ووضعت أقدامها على آثار الحكومات التي سبقتها، وهذا ما نقوله دائمًا بأن حكومات الاحتلال المتعاقبة مجرد أدوات لا تختلف في أدائها ولا تقدم للعراقيين سوى مزيد من الخسران.

الانتخابات في أصلها عبارة عن مسرحية يقتضيها خطاب “الديمقراطية” الذي تتغنى به الولايات المتحدة وهي تحاول تسويق مشروعها في العراق، لذلك فإن التعديلات على ما يسمى قانون الانتخابات لا تقدم شيئًا ولا تؤخر في نظام يقوم على المحاصصة الطائفية والتوافقات السياسية، والدليل على ذلك أن الانتخابات في كل مراحل العملية السياسية لم تكن لها كلمة الفصل في شكل الحكومة وتوزيع مقاعد مجلس النواب، وإنما كانت مجرد إجراء روتيني، بحيث حينما تمت مقاطعها من غالبية الشعب العراقي لم يكن لهذه المقاطعة تأثير على تشكيل الحكومة إذ لو كان القانون رصينًا وذا أثر لأبطلت الانتخابات لأنها لم تحقق النسبة القانونية للمشاركة. ولعل ما حصل في آخر جولة حينما فاز التيار الصدري  – رغم المقاطعة الواسعة – ثم ركله الإطار التنسيقي خارج اللعبة أوضح مثال.

 مشكلة تعديل قانون الانتخابات في العراق هي مشكلة داخل العملية السياسية وتؤثر على الصراع والتنافس بين الشركاء السياسيين أنفسهم بشأن حصول حزب أو كتلة ما على أصوات أعلى ومقاعد أكثر على حساب كتلة أخرى، ولا شك أن هذا يصب في صالح أحزاب وميليشيات الإطار التنسيقي الذي يسعى لأن يكون إخطبوطًا تمتد أذرعه إلى كل مكان، في تنافس غير شريف يقوم على الإزاحة والإقصاء، وذلك في المحصلة يعني استمرار حالة الضرر على العراقيين لأنها تعزز من سطوة أحزاب السلطة.

 

– من وجهة نظركم لماذا التقارب العربي مع العراق حذر، رغم كل الخطوات المبذولة في هذا الإطار؟

 

النظام العربي الرسمي مع الأسف الشديد يتعاطى مع حكومات العملية السياسية رغم قناعته التامة بأنها غير شرعية، وتتخذ من الفساد والإقصاء والنمط “الديكتاتوري” في التعامل مع العراقيين وسيلة للبقاء وزيادة النفوذ، فضلاً عن السوء الذي تبديه في علاقاتها مع دول الجوار بدوافع طائفية تارة وسياسية تصب في مصلحة إيران تارة أخرى؛ وما ذلك إلا لأن الرغبة الأمريكية في بقاء مشروعها في العراق مستمرًا تحت أي ظرف وفي ظل أي وضع؛ تفرض على المنطقة “توازنات” تريد واشنطن تحقيقها في هذه المرحلة بغية جني مكاسب على مستويات وأصعدة كثيرة ومتعددة.

الخطر الإيراني في المنطقة يتنامى بضوء أخضر غربي كان في السابق يُمنح لطهران في الخفاء، لكنه هذه المرة بات صريحًا ومعلنًا، والأنظمة الرسمية في الإقليم تدرك ذلك جيدًا لكنها مرهونة بالتوازنات التي أشرنا إليها آنفًا، إلى جانب مصالحها الاقتصادية والسياسية التي تعمل الولايات المتحدة على إبقائها في حالة اضطرار وتهديد إن حاولت الخروج عن مسار واشنطن وأهدافها في المنطقة، لذلك على النظام العربي الرسمي أن يعيد قراءة المشهد العراقي بصورة صحيحة، ويضع في نظر اعتباره حجم المخاطر التي تتهدده من جراء تنامي المشروع الإيراني في الساحة العراقية، وأن يراعي رغبات الشعوب التي لها الحق الشرعي والتأريخي  في الحفاظ على أمن واستقرار المنطقة، والمفتاح الرئيس لهذه القراءة متوفر لدى القوى العراقية المناهضة للاحتلال والعلمية السياسية.

من عبده محمد

صحفي