أثارت بعض المسلسلات الرمضانية والبرامج والتعليقات عليها في وسائل التواصل الاجتماعي (مسلسل أم هارون، المخرج 7..الخ) ردود فعل متبادلة بين شرائح مجتمعية عربية، وامتشق كل “لسانه” بإهانات متبادلة وتحقير للشعب السعودي بخاصة والخليجي بعامة ليرد عليه آخر بتحقير للشعب الفلسطيني، وتنهال الرسوم الكاريكاتيرية ومقاطع الفيديو الساخرة من كل طرف تجاه الطرف الآخر.

 

من الضروري لفهم هذه المساجلات التمييز بين “فئة ترتبط بسياسات الدول وتنفذ برامج هذه الدول بطرق محددة طبقا لطبيعة وظيفة كل فئة” وبين المواطن العادي أو المتلقي للرسالة الإعلامية، فالفئة الأولى تمثل امتدادا لموقف النظام السياسي، والانفتاح الرسمي والتطبيع بين دول الخليج وإسرائيل ليس سرا، فالزيارات المتبادلة أصبحت أكثر من إن تحصى، ولخلق التناغم بين التوجه الرسمي والقطاعات الشعبية يتم توظيف الفن لتعزيز هذا التوجه بهدف توسيع دائرة التأييد لسياسات النظام السياسي، وكل الدول بخاصة في العالم الثالث تعمل على ذلك، ” فأغلب” الأفلام السوفييتية والمصرية والإسرائيلية والأمريكية والأوروبية ذات المضمون السياسي والاجتماعي تأخذ هذا المنحى، ويمكن العودة لدراسات سمير فريد- وهو الناقد السينمائي المعروف- عن مضامين الأعمال السينمائية وارتباطها بالقوى السياسية.

 

لكن الفخ الكبير هو توظيف ما يحركه العمل الفني بين الجمهور العام، أو تأثيره على “الإرادة العامة” ونقل هذا التأثير من مستواه الفني (أي حصر المناقشة في العمل الفني فقط وهو أمر طبيعي ومطلوب) إلى تحقير كل ما يمت للمجتمع الذي أنتج هذا العمل الفني (أيا كانت القيمة الفنية للعمل)، وهنا تبدأ الهجمات المتبادلة بين “مجتمعي العمل الفني، المجتمع الذي ظهر فيه العمل الفني والمجتمع الذي يستشعر ضررا من هذا العمل، ويبدأ نبش التاريخ والاتهامات الصحيحة وغير الصحيحة، وتصبح الثقافة الغرائزية هي المستنقع الذي يغرف منه الجميع، وتتعزز الأحقاد وتتكرس الصور الذهنية السلبية المتبادلة دون أي محاولة “لعقلنة الحوار” حول الموضوع. وهنا لا بد من التمييز بين من نصب الفخ وبين من وقع فيه.

 

فالذين انبروا لشتم الشعب السعودي وقعوا في الفخ الذي تنصبه هيئات سياسية وعلمية (من علماء النفس والاجتماع والدبلوماسيين والأدباء والمخرجين الفنيين كما سأوضح)، فليس صحيحا على الإطلاق أن كل الشعب السعودي موافق على مضمون مسلسل أم هارون، بل قد أغامر وأقول إن معظم الشعب السعودي ونخبه لا توافق عليه أو على مضمونه، وهناك مئات -طبقا لتقارير الهيئات الدولية لحقوق الإنسان- من المثقفين السعوديين ورجال الدين وأنصار حقوق الإنسان في السجون السعودية بسبب مواقفهم السياسية غير المتناغمة بقدر أو آخر مع توجهات الدولة، ثم هناك قدر كبير من المجتمع من الذين تربوا على مساندة القضية الفلسطينية من الشعب السعودي، والحال كذلك في بقية دول الخليج، وأنا على ثقة مما أقول بناء على استطلاعات الرأي العام المنشورة من جهات أكاديمية أو من خلال كتابات العديد من الكتاب السعوديين أو من خلال المعايشة مع هذا المجتمع فانا عشت فترة في الخليج وذهبت لفترات مختلفة إلى كل الدول الخليجية وألقيت محاضرات وقدمت دورات تدريبية وكان لي احتكاك واسع مع نخبهم.

 

إن السقوط في فخ تأجيج الأحقاد ورسم الصور الذهنية هو في الحقيقة نجاح كبير لهذه المسلسلات من منظور من قام بها من ناحية ولكن -وهو الأهم- من خطط لها، وقد كتبتُ على صفحتي في الفيسبوك قبل حوالي 3 أعوام عن احتمال ظهور مسلسلات وأفلام وتأويلات للنصوص الدينية تتناغم مع توجهات التطبيع.. وها هي أمامنا الآن.

 

ويكفي أن يقف القارئ معي لفحص أجهزة وزارة الخارجية الإسرائيلية الحالية، فمن بين 54 قسما إداريا في وزارة الخارجية الإسرائيلية هناك دائرة اسمها حرفيا دائرة “الدبلوماسية العامة” وفيها قسمان:

 

الأول هو قسم “وسائل الاتصال والشؤون العامة”

 

والثاني قسم “الشؤون الثقافية والعلمية”…

 

وعند تتبعي لطبيعة نشاطات هذين القسمين وجدت أن الفكرة المركزية التي يعملان عليها هي “كيف نحيل أعداء إسرائيل لأصدقاء لها”، وكيف “نعمق ثقة أصدقاء إسرائيل بها”. وليس كيف نصنع أعداء على الطريقة العربية…

 

وعند النظر في تسمية الأقاليم التي تغطيها وزارة الخارجية الإسرائيلية، نجد كل إقليم باسمه (أوروبا، إفريقيا، الكاريبي، أوراسيا..الخ) إلا منطقتنا، فقد أطلقوا عليها اسم “الشرق الأوسط وعملية السلام” لاحظ وعملية السلام مع أن التقسيم على أسس جغرافية.

 

ولكن ماذا تفعل هذه الأقسام؟

 

أحد مهامها هي التواصل بطريقة سرية أو علنية مع كل من له موقف “معادي” لإسرائيل. (لاحظ المعادي وليس الصديق). ثم متابعة كل التعليقات في الصحف التي يوجد فيها ممثل لهذين القسمين في أي دولة، وتصنيف كتاب المقالات في الدولة الأجنبية حسب موقفهم من إسرائيل (معادي – معادي جدا) و( هل يمكن التواصل معه، أم لا يمكن التواصل معه) ثم جمع معلومات شخصية عن كل كاتب (خلفيته، نشأته، مواقفه، أصوله الاجتماعية، علاقاته،…الخ) ثم البحث في أحسن الطرق للتواصل معه، ويتم التركيز على شخصيات قابلة للرشوة أو لديها رغبة بالشهرة، ويتم استضافتهم للمؤتمرات الفكرية “المشهورة” وتبدأ عملية استقطابهم تدريجيا وبطريقة غير مباشرة في البداية.. على قاعدة “نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء”.

 

ويتم تزويد الكتاب والنوادي والجمعيات الأجنبية من خلال هذه الأقسام بكل ما له فوائد لإسرائيل، بل إن برامج تعليم اللغات في المراكز الثقافية البريطانية والفرنسية والأمريكية والألمانية والصينية والروسية والاسبانية.. تتلقى منشورات إسرائيلية لإدخالها في برنامج تعليم اللغات، وتجد مثلا نشرة عن “السياحة في إسرائيل”، وأخرى عن “التطور العلمي في إسرائيل” أو عن “الإرهاب العربي” أو عن “ديمقراطية إسرائيل”.. الخ، مما يحيل المراكز الثقافية الأجنبية كمكاتب دعاية لإسرائيل.

 

أما قسم وسائل الاتصال فقد بدا منذ فترة في التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعي (الفيسبوك والتويتر..الخ)، بل هناك سفارة افتراضية (virtual embassy) لإسرائيل مع كل دولة خليجية (اسمها السفارة الافتراضية في دول الخليج)، ويتم التواصل مع أفراد في الخليج من خلال هذه السفارة الافتراضية التي يديرها السفير الإسرائيلي ييغال بالمور، ويتم في عمليات التواصل هذه التشجيع على العلاقات التجارية -عبر طرف ثالث- وهو ما جعل حجم التبادل التجاري (عبر طرف ثالث بين الخليج وإسرائيل يصل إلى حوالي نصف مليار دولار حاليا طبقا لتقديرات يتسحاق غال أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة تل أبيب.. بل وتقوم السفارة الافتراضية بتوصيل معلومات للكتاب العرب عن خصومهم من العرب لكي تشتعل المعارك الداخلية بين “المفكرين العرب” وبين الطوائف العربية والقبائل العربية…الخ، وهناك قاعة في جامعة تل أبيب مخصصة لتدريب الطلاب الإسرائيليين على التواصل مع العرب بأسماء وهمية -وكثيرا ما كانت أسماء فتيات- ويتم الحوار العادي بداية ثم بعد أن تتوطد الصداقة يبدأ الدخول في موضوعات محددة تكون السفارة الافتراضية قد حددتها، وهناك يبدأ تجنيد أفراد أو دعوتهم للزيارة أو الترويج لعلاقات تجارية من خلال وسيط إلى جانب التواصل مع الفنانين، خاصة ممن يستشعرون أنهم يعانون من التهميش أو عدم الشهرة (بخاصة من فناني الخليج الذين لدى العديد منهم نزوات الشهوة أو الإحساس بالنقص أمام النجوم العرب لا سيما المصريين منهم).

 

إن الوطنية الزائدة بتحقير الشعب السعودي الكريم ، ونبش التاريخ والمخاطبة لهم من منطلق التعالي هو تعبير عن وطنية ” غبية” ، وكان من الأجدى ان نضع الأمور في نصابها، لا أن نسقط في فخ نصبته سلطات سياسية لا هم لها إلا “كرسي السلطة” أو نصبه خبراء في طبائع الشعوب واستغلالها، ويكفي العودة لكتاب رفائيل باتاي لإدراك ما أقول.. وقريبا سأنشر دراسة عن 92 أطروحة دكتوراة في العلوم السياسية تم تسجيلها في الجامعات الإسرائيلية خلال الفترة من 1990 حتى الآن، تؤكد ما تم استنتاجه وبشكل موثق…

 

أخيرا…

لكل مواطن سعودي وخليجي كل الاحترام والتقدير بعيدا عن “غيوم السلطة”، مناشدا وسائل الإعلام العربية التي تراعي المصالح العربية عدم التعامل مع الموضوع (المسلسلات والردح في وسائل الإعلام)، فلا تشهروها كما أشهر الخوميني سلمان رشدي.. ففينا ما يكفينا.

من د. وليد عبد الحي

أستاذ علوم سياسية، الأردن