المنطلق السادس:

اختيار الأقوال التي تطرد مع غيرها، في ظل القاعدة السارية في مسائل الباب.

إذ الأصل -كما سبق- اتساق مسائل كل باب، في ظل كمال اتساق الشرع بمجموعه.

لكن الأبواب لخصوصية جمعها ما يترابط من المسائل بعلاقة أوثق، يكون ظهور هذا الاتساق فيها أوضح في تفاصيل المسائل المختلفة.

فإذا وردت مسألة ليس فيها بخصوصها دليل يصلح للاعتماد عليه، فلا شك أن الأولى فيها بالصواب ما يجعل حكمها مطردا مع غيرها من المسائل،

والتي تدخل كلها تحت قاعدة واحدة سارية في الباب، دون لجوء إلى التخصيص بغير مخصص صحيح سالم من المعارض.

والفرق بين هذا المنطلق (السادس) والمنطلق السابق (الخامس) أننا في السابق كان التعامل مع (دليل) يحتاج إلى ترجيح تفسير من جملة تفسيرات محتملة،

أما هنا فإن التعامل مع مسألة ليس فيها دليل خاص، والحكم عليها سيكون اجتهادا بوضعها في مكانها الصحيح بين أشباهها من المسائل الشرعية.

مثال: (طهارة لبن الميتة إذا لم يتغير بالنجاسة).

فقد قرر أنه «أما لبن الميتة وإنفحتها ففيه قولان مشهوران للعلماء:

أحدهما: أن ذلك طاهر.

كقول أبي حنيفة وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثاني: أنه نجس.

كقول مالك والشافعي والرواية الأخرى عن أحمد.

وعلى هذا النزاع انبنى نزاعهم في جبن المجوس فإن ذبائح المجوس حرام عند جماهير السلف والخلف وقد قيل: إن ذلك مجمع عليه بين الصحابة فإذا صنعوا جبنا -والجبن يصنع بالإنفحة- كان فيه هذان القولان.

والأظهر أن جبنهم حلال وأن إنفحة الميتة ولبنها طاهر وذلك لأن الصحابة لما فتحوا بلاد العراق أكلوا جبن المجوس وكان هذا ظاهرا شائعا بينهم

وما ينقل عن بعضهم من كراهة ذلك ففيه نظر فإنه من نقل بعض الحجازيين وفيه نظر. وأهل العراق كانوا أعلم بهذا فإن المجوس كانوا ببلادهم ولم يكونوا بأرض الحجاز.

ويدل على ذلك أن سلمان الفارسي كان هو نائب عمر بن الخطاب على المدائن وكان يدعو الفرس إلى الإسلام وقد ثبت عنه: أنه سئل عن شيء من السمن والجبن والفراء؟

فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفى عنه. وقد رواه أبو داود مرفوعا إلى النبي .

ومعلوم أنه لم يكن السؤال عن جبن المسلمين وأهل الكتاب فإن هذا أمر بين وإنما كان السؤال عن جبن المجوس: فدل ذلك على أن سلمان كان يفتي بحلها وإذا كان روي ذلك عن النبي انقطع النزاع بقول النبي .

وأيضا فاللبن والإنفحة لم يموتا وإنما نجسهما من نجسهما لكونهما في وعاء نجس فيكون مائعا في وعاء نجس فالتنجيس مبني على مقدمتين على أن المائع لاقى وعاء نجسا وعلى أنه إذا كان كذلك صار نجسا.

فيقال أولا:

لا نسلم أن المائع ينجس بملاقاة النجاسة وقد تقدم أن السنة دلت على طهارته لا على نجاسته.

ويقال ثَانيا:

إن الملاقاة في الباطن لا حكم لها كما قال تعالى: (نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) [النحل – 66]

ولهذا يجوز حمل الصبي الصغير في الصلاة مع ما في بطنه. والله أعلم.

[21/102 – 104 – مجموع الفتاوى].

فإن أصل هذه المسألة أن المائعات إذا وقعت فيها نجاسة:

فهل تنجس وإن كانت كثيرة فوق القلتين؟ أو تكون كالماء فلا تنجس مطلقا إلا بالتغير؟

أو لا ينجس الكثير إلا بالتغير كما إذا بلغت قلتين. فيه عن أحمد ثلاث روايات:

إحداهن أنها تنجس ولو مع الكثرة.

وهو قول الشافعي وغيره.

والثانية: أنها كالماء.

سواء كانت مائية أو غير مائية وهو قول طائفة من السلف والخلف: كابن مسعود وابن عباس والزهري وأبي ثور وغيرهم.

وهو قول أبي ثور نقله المروذي عن أبي ثور ويحكى ذلك لأحمد فقال: إن أبا ثور شبهه بالماء ذكر ذلك الخلال في جامعه عن المروذي.

وكذلك ذكر أصحاب أبي حنيفة أن حكم المائعات عندهم حكم الماء ومذهبهم في المائعات معروف فيه.

فَذا كانت منبسطة بحيث لا يتحرك أحد طرفيها بتحرك الطرف الآخر لم تنجس كالماء عندهم. وأما أبو ثور فإنه يقول: بالعكس. بالقلتين كالشافعي.

والقول أنها كالماء يذكر قولا في مذهب مالك وقد ذكر أصحابه عنه في يسير النجاسة إذا وقعت في الطعام الكثير روايتين وروي عن أبي نافع من المالكية في الحباب التي بالشام للزيت تموت فيه الفأرة أن ذلك لا يضر الزيت قال: وليس الزيت كالماء.

وقال ابن الماجشون في الزيت وغيره تقع فيه الميتة ولم تغير أوصافه وكان كثيرا لم ينجس؛

بخلاف موتها فيه ففرق بين موتها فيه ووقوعها فيه ومذهب ابن حزم وغيره من أهل الظاهر أن المائعات لا تنجس بوقوع النجاسة إلا السمن إذا وقعت فيه فأرة كما يقولون إن الماء لا ينجس إلا إذا بال فيه بائل.

والثالثة: يفرق بين المائع المائي.

كخل الخمر وغير المائي كخل العنب فيلحق الأول بالماء دون الثاني.

وفي الجملة للعلماء في المائعات ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها كالماء.

والثاني: أنها أولى بعدم التنجس من الماء لأنها طعام وإدام فإتلافها فيه فساد ولأنها أشد إحالة للنجاسة من الماء أو مبايِنة لها من الماء.

والثالث: أن الماء أولى بعدم التنجس منها لأنه طهور…

لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا:

إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره. فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير كما ذكره البخاري في صحيحه..

ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة

وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس. ومن كان فقيها خبيرا بمآخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى تبين له ذلك»

[21/488 – 509 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:

إن اللبن ليس مما يتجنس بالموت، إذ أنه لم يمت، لعدم قيام الحياة الحيوانية فيه ابتداء (والتي تتسم بالحس والحركة الإرادية)، وبالتالي فهو لم يمت ليدخل في حكم (نجاسة الميتة).

إن من يحكم بنجاسته، فإنما يستند إلى كونه مائعا قليلا (وهناك من لا يفرق بين قليل المائعات وكثيرها) لاقى نجاسة الوعاء الذي يحفظه داخل بدن الميتة، فيتنجس بالملاقاة للنجاسة.

يرد على الحكم بالنجاسة بناء على التعليل السابق اعتراضان:

تفريق الشرع بين الملاقاة في باطن الحيوان (أو الإنسان) وبين الملاقاة في الظاهر، فإن الملاقاة في الباطن لا حكم لها.

التسوية بين المائعات والماء، في عدم التنجيس إلا إذا تغيرت بالنجاسة.

لا تطرد قاعدة الحكم بالتنجيس والتطهير إلا بهذه التسوية بينها، وهو ما تشهد له الأدلة العامة مع الأدلة الخاصة في أفراد من مسائل الباب.

ولم يصح دليل سالم من المعارض يخالف هذا الاختيار، بل الأدلة تدعم المصير إليه.

وفي هذا المنطلق نجد طرد (قاعدة الباب) في كل مسائله الجزئية، فيستوي تحتها ما ورد بخصوصه دليل مخصوص، وما لم يرد مما يستنبط حكمه باجتهاد يلائمه.

المنطلق السابع:

اختيار الأقوال التي تجمع بين دليل (المسألة الجزئية) وبين (القاعدة) السارية في مسائل الأبواب الشرعية المختلفة.

فإن الأبواب المختلفة تبقى في نسيج نظام تشريعي موحد، بما يجعلها تحت كليات مشتركة -كما سبق-.

فعندما يتجاذب المسألة الجزئية قولان، ولكل قول وجهته التي أدت ببعض المجتهدين إلى اختياره،

فإنه مما يرجح به أحدهما أن يكون متسقا مع إحدى القواعد السارية في أبواب مختلفة من الشريعة، ومطردا مع كثرة من المسائل الجزئية المتنوعة.

في المنطلق السابق (السادس) كان النظر إلى القاعدة السارية في الباب الذي تنتمي له المسألة، أما في هذا المنطلق (السابع) فإن النظر لا يكتفي بذلك، بل يضم إليه النظر الأوسع إلى القاعدة السارية فيه وفي غيره من الأبواب.

وفي هذا من فهم البناء المحكم للشريعة عموما، ما يفتح آفاقا من رؤية شيء من إعجازها الإلهي.

مثال: (طهارة شعر الكلب مع نجاسة لحمه).

«أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:

أحدها: أنه نجس كله حتى شعره كقول الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه.

والثاني: أنه طاهر حتى ريقه كقول مالك في المشهور عنه.

والثالث: أن ريقه نجس وأن شعره طاهر وهذا مذهب أبي حنيفة المشهور عنه وهذه هي الرواية المنصورة عند أكثر أصحابه وهو الرواية الأخرى عن أحمد وهذا أرجح الأقوال».

فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك وإذا ولغ في الماء أريق وإذا ولغ في اللبن ونحوه:

 فمن العلماء من يقول: يُؤكل ذلك الطعام، كقول مالك وغيره. ومنهم من يقول يراق كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد. فأما إن كان اللبن كثيرا فالصحيح أنه لا ينجس.

وله في الشعور النابتة على محل نجس ثلاث روايات:

إحداها: أن جميعها طاهر حتى شعر الكلب والخنزير وهو اختيار أبي بكر عبد العزيز.

والثانية: أن جميعها نجس كقول الشافعي.

والثالثة: أن شعر الميتة إن كانت طاهرة في الحياة كان طاهرا كالشاة والفأرة وشعر ما هو نجس في حال الحياة نجس: كالكلب والخنزير وهذه هي المنصوصة عند أكثر أصحابه.

والقول الراجح هو طهارة الشعور كلها: شعر الكلب والخنزير وغيرهما بخلاف الريق وعلى هذا فإذا كان شعر الكلب رطبا وأصاب ثوب الإنسان فلا شيء عليه كما هو مذهب جمهور الفقهاء: كأبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه:

وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل.

كما قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) [الأنعام – 119]

 وقال تعالى: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون)

[التوبة – 115]

وقال النبي في الحديث الصحيح: «إن من أعظم المسلمين بالمسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته».

وفي السنن عن سلمان الفارسي مرفوعا. ومنهم من يجعله موقوفا أنه قال: «الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه».

وإذا كان كذلك فالنبي قال: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا أولاهن بالتراب»

وفي الحديث الآخر: «إذا ولغ الكلب». فأحاديثه كلها ليس فيها إلا ذكر الولوغ، لم يذكر سائر الأجزاء، فتنجيسها إنما هو بالقياس.

فإذا قيل: إن البول أعظم من الريق كان هذا متوجها.

 وأما إلحاق الشعر بالريق فلا يمكن؛ لأن الريق متحلل من باطن الكلب بخلاف الشعر فإنه نابت على ظهره.

والفقهاء كلهم يفرقون بين هذا وهذا. فإن جمهورهم يقولون: إن شعر الميتة طاهر بخلاف ريقها.

والشافعي وأكثرهم يقولون:

إن الزرع النابت في الأرض النجسة طاهر فغاية شعر الكلب أن يكون نابتا في منبت نجس كالزرع النبت في الأرض النجسة فإذا كان الزرع طاهرا فالشعر أولى بالطهارة لأن الزرع فيه رطوبة ولين يظهر فيه أثر النجاسة بخلاف الشعر فإن فيه من اليبوسة والجمود ما يمنع ظهور ذلك.

فمن قال من أصحاب أحمد كابن عقيل وغيره:

إن الزرع طاهر فالشعر أولى ومن قال إن الزرع نجس فإن الفرق بينهما ما ذكر فإن الزرع يلحق بالجلالة التي تأكل النجاسة وهذا أيضا حجة في المسألة فإن الجلالة التي تَأكل النجاسة قد نهى النبي عن لبنها فإذا حبست حتى تطيب كانت حلالا باتفاق المسلمين؛

لأنها قبل ذلك يظهر أثر النجاسة في لبنها وبيضها وعرقها فيظهر نتن النجاسة وخبثها فإذا زال ذلك عادت طاهرة فإن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها. والشعر لا يظهر فيه شيء من آثَار النجاسة أصلا فلم يكن لتنجيسه معنى.» [21/616 – 618 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:

الأصل في الأعيان الطهارة (ومنها شعر الكلب)، فلا يجوز التنجيس إلا بدليل [فهذه قاعدة عامة في الشريعة].

لم تذكر الأحاديث المفيدة للنجاسة إلا ريق الكلب، لا غير، ولا يصلح قياس الشعر عليه

(فجمهور الفقهاء على طهارة شعر الميتة، مع نجاسة ريقها، وكل الفقهاء يفرقون بين المتحلل من الباطن وبين النابت على الظهر)

[وهذه قاعدة عامة في التفريق، متعلقة بأحكام الحيوان].

من يختارون طهارة الزرع النابت في الأرض النجسة، فإنه يلزمهم الحكم بطهارة الشعر النابت في البدن النجس (وهو هنا: شعر الكلب)، وهذا بالأولوية لا بالتسوية،

فإن الزرع فيه من رطوبة منبته، بخلاف الشعر الذي ليس فيه من رطوبة منبته [وهذا إلزام لمن يعتمد قاعدة التفريق بين النابت والمنبت، المتعلقة بأحكام الزروع].

من يختارون نجاسة الزرع النابت في الأرض النجسة، إلحاقا له في الحكم بنجاسة الجلالة (التي تتغذى على النجاسة)،

يقولون إنها تطهر إذا حبست عن النجاسة (كما في الحديث)، حتى يزول أثر النجاسة الذي كان يظهر في عرقها ولبنها وبيضها،

فإذا زال ذلك الأثر عادت طاهرة (باعتبار طهارتها في أصلها)، والشعر لا يظهر فيه شيء من أثر النجاسة أصلا، فلا وجه للقول بتنجيسه؛

[وهذا إعمال لقاعدة ارتباط الحكم بعلته وجودا وعدما -وهي قاعدة عامة في الشريعة-،

وإلزام بالحكم بتطهير ما تغذى على النجاسة إذا زال عنه أثر تلك النجاسة، فمن الأولى الحكم بتطهير ما لا يظهر عليه أثر التغذي بالنجاسة أصلا].

وفي هذا المنطلق نجد طردا (لقواعد عامة) في مختلف أبواب الشريعة،

وفهما (لدليل المسألة) الجزئية بما يتسق معها كلها، فتتوافق في الحكم أفراد المسائل المتشابهة (من جهة اشتراكها في علة ذلك الحكم)، ويزول التناقض بين الاختيارات في مختلف المسائل.

اقرأ أيضًا:

إضاءات من المنهج العلمي لابن تيمية (1-2)

المنطلق الثامن:

اختيار الأقوال المتوسطة التي تجمع بين (ظواهر) معاني الألفاظ وبين (مقاصد) معاني الأحكام.

فإنه لا خلاف بين أهل العلم أن الشريعة إنما جاءت لمصلحة العباد في العاجل والآجل، وأن مصلحة الدنيا تقصد لأجل مصلحة الآخرة.

بل إن تفريقهم بين (العباديات) و(العاديات) إنما كان باعتبار ظهور تفاصيل تلك المصالح المقصودة لنا أو خفائها عنا،

فمقصود العباديات مفهوم لنا من حيث الإجمال، لبنائها على قاعدة (التقرب المحض) لله -سبحانه وتعالى-،

أما العاديات فإننا نفهم مقاصدها التفصيلية باعتبار ما تحققه من مصالح جزئية وكلية ظاهرة للناس.

والأصل في كل (حكم) أن يحقق معناه (المصلحة المقصودة) التي لأجلها شرع ذلك الحكم، وهذا الأصل مطرد على وجه العموم.

لكن ذلك لا يمنع من أحوال استثنائية، لا يحقق فيها معنى الحكم مقصوده بل يتجرد عنه، أو ربما استدعى ما ينافيه بدرجات تكثر أو تقل،

وعندها يكون الاجتهاد في ترجيح ما يغلب الشرع كفته، ولشيخ الإسلام جهد مميز من خلال تبني هذه المنطلق، يظهر أثره في جملة كثيرة من اختياراته وفتاواه.

مثال: (مشروعية إخراج القيمة في الزكاة والكفارة للحاجة).

فمن المقرر أن «الزكاة مبناها على المواساة، وهذا معتبر في قدر المال وجنسه»

 [25/82 – مجموع الفتاوى]

«وصدقة الفطر من جنس الكفارات، هذه معلقة بالبدن، وهذه معلقة بالبدن، بخلاف صدقة المال، فإنها تجب بسبب المال من جنس ما أعطاه الله.»

[25/69 – مجموع الفتاوى]

وإنما تتحقق المواساة بهذا، لأن «الأصل في الصدقات أنها تجب على وجه المساواة للفقراء، كما قال -تعالى-: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) [المائدة – 89].»

 [25/69 – مجموع الفتاوى].

لذلك فقد اختلفت الأقوال في«إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك:

فالمعروف من مذهب مالك والشافعي أنه لا يجوز.

وعند أبي حنيفة يجوز.

وأحمد -رحمه الله- قد منع القيمة في مواضع، وجوزها في مواضع، فمن أصحابه من أقر النص، ومنهم من جعلها على روايتين.» [25/82 – مجموع الفتاوى]

«واختاروا المنع، لأنه المشهور عنه، كقول الشافعي.» [25/46 – مجموع الفتاوى] مع أنه خلاف «المنصوص عن أحمد صريحا، فإنه منع من إخراج القيم، وجوزه في مواضع للحاجة… وهذا القول أعدل الأقوال..

فإن الأدلة الموجبة للعين نصا وقياسا، كسائر أدلة الوجوب. ومعلوم لأن مصلحة وجوب العين، قد يعارضها أحيانا في القيمة من المصلحة الراجحة، وفي العين من المشقة المنفية شرعا.»

[25/46 – مجموع الفتاوى].

فيكون «الأظهر في هذا: أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة، ممنوع منه… أما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل، فلا بأس به.

مثل أن يبيع ثمر بستانه، أو زرعه بدراهم، فهنا إخراج عشر الدراهم يجزيه، ولا يكلف أن يشتري ثمرا، أو حنطة، إذ كان قد ساوى الفقراء بنفسه، وقد نص أحمد على جواز ذلك.

ومثل أن يجب عليه شاة في خمس من الإبل، وليس عنده من يبيعه شاة، فإخراج القيمة هنا كاف، ولا يكلف السفر إلى مدينة أخرى ليشتري شاة.

ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة، لكونها أنفع، فيعطيهم إياها، أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء»

 [25/82 – 83 – مجموع الفتاوى].

فخلاصة كلامه:

إن وجوب الزكاة قد يتعلق بالبدن (كزكاة الفطر والكفارات) وقد يتعلق بالمال (كزكاة المال والزرع والأنعام).

و(حكم الزكاة) له (مصلحة مقصودة)، وهي المواساة من خلال المساواة.

فيتحقق ذلك فيما يتعلق بالبدن، بإخراج طعام (مما يقتاته) من وجبت عليه. ويتحقق فيما يتعلق بالمال، بإخراج مال (من جنس ما يملك) مماوجبت فيه الزكاة.

و(أدلة وجوب) ما سبق بالنص والقياس كثيرة.

لكنها كسائر (أدلة الوجوب)، قد يعارضها أحيانا ما هو أولى منها [وهذه قاعدة عامة].

فقد تعارضها (المصلحة المقصودة) منها، بأن:

تحصل المساواة بالقيمة لا بالعين.

أو يحصل الحرج في توفير العين، بخلاف القيمة.

أو تكون القيمة أنفع للفقراء من العين (وهم الذين يقصد سد حاجتهم وإغناؤهم بها).

7- فيشرع -على سبيل الاستثناء- حينها إخراج القيمة، تقديما (للمصلحة المقصودة الراجحة) على (معنى الحكم) الملزم بالعين دون القيمة.

8- ويكون في هذا إعمال (للحكم بوجوب إخراج العين) في عموم الأحوال، لإفضائه فيها إلى مقصوده، والخروج عنه في أحوال خاصة، تقديما (للمصلحة المقصودة منه بإخراج القيمة) حيث تعارضا في هذه الأحوال.

9- إذ تتغير الفتوى تبعا لتغير الواقع، ليتنزل كل حكم على واقعه الذي شرع له، فيحقق فيه مصلحته المقصودة،

 وبناء عليه تأتي الفتوى تتوسط بين الإلزام العام (الذي دلت عليه ظواهر الأدلة الشرعية)

 وبين التجويز الخاص بمخالفة ذلك الإلزام (مراعاة للمصلحة المقصودة من الحكم) في الواقع المختلف،

الذي حصل فيه انفكاك بين الحكم وبين مصلحته المقصودة [وهذه قاعدة عامة تحتاج إلى مزيد بسط، ليس هذا محله].

ففي هذا المنطلق نجد التوسط بين (الإلزام مطلقا) تقديما لمعاني الأحكام دائما، وبين (التخيير مطلقا) تقديما للمصلحة المقصودة دائما.

 إذ الأصل العام إفضاء الحكم إلى مصلحته، فيفتى بظاهر الحكم (وهو هنا الإلزام) في عموم الحوال، ويفتى بالخروج عنه (وهو هنا بمشروعية مخالفة ذلك الإلزام) على سبيل الاستثناء، حيث كان الراجح تحقيق ذلك الخروج للمصلحة المقصودة، أو ما كان في معنى ذلك.

في الختام:

أؤكد أن هذا فتح لباب البحث في هذه المنطلقات، وفي أشباهها، وليس إنهاء له، مما يجلي العقلية العلمية المبهرة لفقهائنا، ويجدد فهمنا لأدلة الشريعة وأحكامها، بثوابتها الرصينة وبمرونتها الواقعية، وكيفية تحقيقها لمصالح العباد في الدارين، على أكمل الوجوه.

وقد حرصت على أن يكون هذا البيان متدرجا في عرضه:

فبدأت بعرض التوسط بين معاني الألفاظ ذات الصلة ببعضها، بما يزيل وهم التعارض بينها.

ثم التوسط بين معاني الأدلة، لينزل الحكم المتوسط بينها على المناط الواحد المشترك بينها.

ثمّ التوسط بطريقة أخرى بين الأدلة، بتنزيل أحكامها المختلفة على مناطات مختلفة.

ثم التوسط بين الأدلة وبين فهم الصحابة لها -لحجية فهمهم-، من خلال توضيح العلاقة بين الأحكام الأصلية والأحكام الاستثنائية، ومناط كل منهما.

ثمّ التوسط في تفسير دليل المسألة الجزئية ومفهوم القاعدة العامة الحاكمة للباب الشامل لها، بما يحقق اتساقا بينهما باعتبار الأصل، دون اللجوء للتفسير بالاستثناء من القاعدة بلا مسوغ كاف لذلك.

ثم التوسط في إلحاق المسألة الاجتهادية بأشباهها تحت القاعدة العامة الشاملة لها كلها في نفس الباب، وهذا تفريع اجتهادي على ما سبق من توسط يربط بين المسألة الجزئية وقاعدة بابها.

ثمّ التوسط في إلحاق المسألة الاجتهادية بأشباهها تحت القواعد العامة السارية في أكثر من باب فقهي، تفريعا على ما سبق من جهة، وتوسيعا في النظر الجامع للمنظومة الفقهية من جهة أخرى.

وذكرت أخيرا التوسط بين معاني أدلة الأحكام وبين مقاصد تلك الأحكام، من خلال التمييز بين الأصل الذي تحقق فيه معاني أدلة الأحكام مقاصدها،

وبين الاستثناء الذي يحدث فيه التعارض بين ظاهر المعنى من جهة وبين مقصود الحكم من جهة أخرى. فيغلب الأول في الأحوال الأصلية، ويغلب الثاني في الأحوال الاستثنائية.

كما أؤكد أن كل تناقض يثير الاضطراب، وكل جمود يفضي إلى الحرج، ليس من الشريعة في الحقيقة.

وإن أدخله من أدخله فيها، بنقص فهم أو ضعف اجتهاد، حتى لو كان معذورا في ذلك.

وسيبقى العلم نورا يقذفه الله في صدور من يصطفيهم من عباده، ليرث العلماء الأنبياء، وليظهروا حجة الله بين العالمين.

يرث المتأخرون في هذا المتقدمين، حتى يبقى الحق ظاهرا، من لدن سيد المرسلين وإلى آخر الزمان.

والحمد لله رب العالمين.

من د. أشرف عبد المنعم

عضو اللجنة العلمية بالجبهة السلفية بمصر