المهندس محمد العصار، عضو مجلس شورى جماعة الإخوان المسلمين، انتقل إلى جوار ربه جراء الإهمال الطبي المتعمد داخل محبسه بسجن برج العرب.

***

رحل صاحب اللاءات الثلاثة الشهيرة: (لا للتكفير- لا للعنف – لاللذوبان)..  حتى أنا لي في كتاباتي لاءاتي الثلاثة: لا أحكي في المحكي، ولا أحب المبالغة في المدح حتى عند الرثاء، منعًا (للأفورة)، ولست من دراويش الراحل ومريديه -وإن كان حقًا له أن يكون له مريديه-فشهادتي إذن له ليست مجروحة..

 

عرفت المهندس الفاضل، رحمه الله، من خلال مواقف ذات دلالات؛

 

في مطلع عام 1987 سمعته في محاضرة في الإسماعيلية لفت نظرنا فيها إلى أن دعوة الوسطية هي الدعوة الطائرة وهي بذلك تتعدى الفكرة التنظيمية وتتخطى أسوار المدرسة المكانية التي تجمع مجموعة من المريدين بشيخ.. لأنها دعوة تقوم على الكلمة والقدوة واللفتة المقروءة والمسموعة والمرئية، وتعلمت ساعتئذ كيف أحمل دعوتي في عقلي وقلبي وأمضي بها ملقيا كلماتي كما يبذر الزارع بالفطرة الحَب وينتظر المطر فالإنبات فالثمر.. تعلَّمت أن ألقي كلمتي وأمضي!

 

في ربيع عام 1991 وعقب حملة اعتقالات واسعة للعشرات من طلاب الجامعة جنح بعض هؤلاء للتفكير -مجرد تفكير-في العنف.. أو على أقل تقدير طرح السؤال إلى متى الجنوح إلى السلم رغم تكرار المحن؟.. قال الرجل: لا للعنف ولا للتكفير.. قال: لن أنكر على أصحاب المناهج والآليات مناهجهم فكل يعمل على شاكلته.. لكني أقول الأعمال بالنتائج وطريق الوسطية طويل بطيئ مليء بالأشواك لكننا مؤمنون به وليس لنا محيد عنه..

 

وفي تلك الدروس انبريت أقول للشيخ: أن كتاب المنهج الحركي في السيرة النبوية لمنير الغضبان يؤسس للعنف من خلال التأصيل لما عرف بالاغتيالات السياسية، وأن هذا يتنافى مع منهج الوسطية.. جادلني الشيخ فلم يكن اطلاعه على الكتب الصادرة حديثا كما هو على كتب التراث.. لكنه أبدى انزعاجًا من أن يدرس هكذا منهج في وسط شباب يجب أن يؤمن بالوسطية والاعتدال.. قلت للشيخ سآتيك الدرس القادم ومعي الكتاب للاطلاع والتوجيه.. حضرت الدرس التالي متحفزًا أحمل تحت إبطي نسخة من الكتاب، وقبل أن أنطق ابتدرني قائلا: لقد اطلعت على الفقرة وأنت محق. وتعلمت أن احترام العلم والموضوعية مقدم على احترام المعلم –مع وجوب احترامه- فلم يمنعني الجدل ولم يمنعه مقام الأستاذية أن يقر بالخطأ!

 

لجأ إليه صديقي ثائرا مغاضبا وقد لمس في مدرسة الشيخ –من وجهة نظر الصديق- لينا وتضييعا، وأراد أن ينتهج منهج أهل الحديث دون سواه، فدعا له الشيخ بخير وأوصاه قائلا: خض تجربتك كاملة ودر دورتك بحثًا عن الحق والطريق.. ولكن عدني بألا تستكبر على الحق فإن علمته في مدرستي فعد إليها سالمًا.. ففارقه صديقي مطمئنا وعاد إليه أكثر اطمئنانًا

 

في رمضان التالي وكنا كشباب جامعات نحرص على استضافة الأسماء البارزة من دعاة الإسكندرية لإلقاء الدروس خلال إفطارات رمضان ولقاءاته.. قال لي صديقي السكندري المهندس أشرف عبد المحسن: لمَ تستضيفون دعاة الإسكندرية وعندكم كنز اسمه العصار؟!

 

ثم سافر الشيخ للعمل بالسعودية فسمعت من أحد الدعاة ذي وزن وكان قادمًا من القاهرة -على ما أذكر- يقول مثل العصار لا يسافر ليؤمِّن احتياجه من المال.. وعلى الدعوة أن تؤمِّن له احتياجاته مقابل التفرغ.. ولكن الرجل تعفَّف أن يمس مالا يُجمع من جيوب شباب صغير ليصب في جيب شيخ ولو كان من أجل التفرغ للعمل الدعوي!

 

في مطلع العام 2008 وبعد انقطاع عن لقاء الأجساد لظروف اغتراب كلينا.. جمعتني به رواية حتى لا تموت الروح من خلال ابنه مهندس أحمد.. وتعجَّبت أن يقرأ الشيخ عملا أدبيا يقع في أربعمائة صفحه ويناقشه ويبدي فيه رأيًا نقله لي ابنه..

 

وعندما التقيته في صلاة عيد فطر الثورة عام 2011 في صلاة العيد بالاستاد بعد غياب قارب عشرين عامًا غادرته شابًا نحيفا، والتقيته وقد غزاني الشيب، ففوجئت به لا يتذكرني فحسب بل يناقش معي كتابي دولة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبدي عليه ملاحظات عميقة، بل ويحلل منهجي المخالف لمنهجه في دراسة سيرة رسول الله، ويتنبأ لي باستمرار التمرد على الفكر التقليدي.. ربما كان خائفًا علي من الشطط، أو خائفًا مني لنفس السبب..

 

وافترقنا وما زال هو الأستاذ وما زلت التلميذ المشاغب الذي لا يريد أن يعترف بالمريدية فكرًا وإستراتيجية.. وإن كنت من مريديه في خُلقه الجم وهدوئه المعهود وذاكرته الحاضرة وطهارته الظاهرة..

 

رحم الله الشيخ الذي خالفته وأنا أحبه فلم أسمع منه ما يسوءني، ولا أحدِّث عنه إلا خيرًا..

علاء سعد حميده

من علاء سعد حميده

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، عضو الهيئة الاستشارية للاتحاد العالمي للإبداع الفكري والأدبي.