علاء سعد حميده

 تتكرر فريضة الحج كل عام في حياة الأمة المسلمة، لتحج الأمة لا بعض أفرادها فحسب، فهؤلاء الحجيج الذين تقترب نسبتهم من حاجين اثنين من بين كل ألف مسلم، هم سفراء الأمة ومندوبيها الممثلين لها في أداء الفريضة والمشاركة في المؤتمر الشعبي العالمي الأعظم والأطهر والأضخم عددا على مستوى العالم كل عام.

الحج مؤتمر التوحيد الخالص الذي ينعقد ليجتمع فيه مندوبو الأمة وسفراؤها بالملايين في صعيد واحد وزمان واحد ليجتمعوا بأرواحهم وتتلاقى وجوههم وأجسادهم، وتتحقّق أخوتهم العالمية متجاوزة كل الحدود الأرضية المصطنعة، فحميمية لقائهم تتسامى فوق الجنس والعِرق واللون واللغة والطبقة الاجتماعية والمستوى الثقافي والتخصص المهني والوظيفي، لا يجتمعون إلا على عقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد الخالص لله تعالى جل في علاه، وإمامة الرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومنهج الإسلام، وقِبلة واحدة هي الكعبة المشرفة.

والأمة المسلمة تحج بمجموعها وعمومها مرة كل عام، فهي أمة الحج، تحج عبر إخراج سفرائها من كل فج عميق، فلا يبقى فيها مسجد يؤذّن فيه للصلاة حول العالم وإلا وقد خرج من رواده من يروم البيت الحرام قاصدا الحج، وتحج الأمة عندما تحتفي بوفد حجيجها في الذهاب والعودة، وتحج وهي تتابع أخبار أداء تلك المناسك على مدار الساعة عبر الشاشات وعبر وسائل الإعلام المختلفة، وتحج الأمة وكل فرد من أفرادها يتمنى من صميم قلبه أن لو كان هو الذي ذهب لأداء الفريضة هذا العام، ويحن كل من أدى الفريضة سابقا حنينا شديدا لتكرارها، فتحج القلوب وتحج الأرواح، وتحج الأشواق وتحج الذكريات، لا يتخلف عن أداء الحج إلا الأجساد التي لم تجد ما تُحمَل عليه إلى الأراضي المقدسة!

فهل تعلم أن أمة الإسلام، أمة الحج، هي الأمة الوريثة التي ورثت شعيرة الحج المعظّمة لتقوم برسالته العالمية السامية نائبة عن أمم الأرض قاطبة؟

يقول المولى عز وجل

(وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ* وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ* ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ۖ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ* حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ* ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ* لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ* وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِۗ فَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواۗ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)

سورة الحج26-34،

منذ أمَر المولى سبحانه وتعالى نبيه وخليله إبراهيم أبو الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ووعده بالاستجابة العالمية، (يأتين من كل فج عميق)، ويثور التساؤل وهل اختصت أمة العرب دون غيرها من سائر الأمم بفريضة الحج؟ كيف يستقيم هذا مع عالمية الاستجابة التي وعد بها المولى عز وجل؟ ولقد ساد في الثقافة العربية أن الحج إلى بيت الله الحرام الذي استمر من عهد أبي الأنبياء إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما قبل فرضه على المسلمين كفريضة كبرى في الإسلام، وأداء سيدنا رسول الله له في العام العاشر من الهجرة في حجة الوداع، كان مقتصرا على عرب الجاهلية! غير أن الحقيقة البدهية التي أقرها القرآن الكريم بأن الحج فريضة عالمية لم يختص بها قوم دون آخر (من كل فج عميق)، فالحقيقة التي تنطق بها الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقة لخاصية عالمية الحج التي نص عليها القرآن الكريم، فورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «صَلَّى فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ سَبْعُونَ نَبِيًّا، مِنْهُمْ مُوسَى، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ عباءتانِ قَطْوانِيَّتانِ، وَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إِبِلِ شَنُوءةَ، مَخْطُومٍ بِخِطَامِ لِيفٍ لَهُ ضَفْرَانِ»، وعنه أنه قال: «لقد مر بِالرَّوْحَاءِ سَبْعُونَ نَبيا فيهم نَبِي الله مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام، حُفَاة عَلَيْهِم العباء، يؤمُّونَ بَيت الله الْعَتِيق»  

وقد قال أبو المعالي الجويني -رحمه الله: «ما من نبي إلا وقد حج هذا البيت». وقال ابن حجر الهيتمي -رحمه الله: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ حَجَّ الْبَيْتَ، خِلافًا لِمَنْ اسْتَثْنَى هُودًا وَصَالِحًا” . وهما قد اختصرا ما فصّله عروة بن الزبير؛ إذ قال: “ما من نبي إلا وقد حج البيت، إلا ما كان من هود وصالح.»

وإذا كان ما من نبي –لا سيما – بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا وقد حج البيت العتيق، فإني أفهم من ذلك أن شعيرة الحج كانت لهم ولمن آمن بهم من أقوامهم، وهكذا تحققت عالمية شعيرة الحج، عالمية إنسانية تحققت قبل نزول رسالة الإسلام الخاتمة، عالمية ضاربة في جذور التاريخ البشري قائمة على التوحيد الخالص لله الذي رافق نزول الإنسان الأول آدم عليه السلام إلى الأرض أول مرة، ثم تحققت عالمية فريضة الحج الإسلامية، وذلك عندما ورثت أمة الإسلام –الأمة الوريثة- رسالة التوحيد الخالص، ومع التوحيد ورثت فريضة الحج، وبوراثة أمة الإسلام رسالة التوحيد وفريضة الحج، تجاوز المسلمون الأوائل فكرة القومية العربية، لقد تجاوزها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نفسه منذ السنوات الأولى لدعوته، فلقد تواصلت دعوته إلى الناس كافة بلا تمييز في الجنس والعِرق واللون واللغة، فآمن به بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، مع صحابته الكرام من قريش وسائر القبائل العربية، ثم حمل هؤلاء الصحابة والتابعين رسالة الإسلام إلى العالمين، فانتشرت متجاوزة كل عِرق وكل جنس.

وتحقّق لأمة الحج المسلمة شرط الأمة الوريثة، وريثة التوحيد ووريثة شعيرة الحج، (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ).

وتظل أمة الإسلام هي الأمة الوحيدة العابدة على وجه الأرض، أمة تُخرج نحو اثنين من كل ألف من أبنائها مندوبين عنها ليؤدوا عنها فريضة الحج، وما أدراك ما فريضة الحج، ينفقون أموالا باهظة، ويقطعون مسافات شاسعة في السفر الشاق بأنواعه، جوا وبحرا وبرا، يتغرّبون عن أوطانهم وأهلهم، ويعتزلون أعمالهم ومصالح دنياهم –أياما تطول أو تقصر- ليتجرّدوا من رياش الدنيا، ويرتدون ملابس كالأكفان، ويزدحمون كلهم في صعيد واحد، ولا بد لهم مهما بلغ ثراء الواحد منهم أن يبيت ولو ليلة واحدة متجرّدة من كل رياش على الأرض الجرداء، ويتحقّق ذلك في مزدلفة، حيث لا خيام مكيفة كما في مِنى وعرفات، ولا فنادق مجهّزة بأرقى وسائل الراحة، كما حول الحرمين في مكة والمدينة، تظل ليلة مزدلفة ليلة التجرد الخالصة من الدنيا ومباهجها. فما الذي يدفع هؤلاء الملايين من المسلمين إلى بذل كل تلك التضحيات إلا لإقامة شعائر الله وتعظيمها في أمة هي التي ورثت تعظيم شعائر الله والتقوى إلى يوم الدين، (ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ).

علاء سعد حميده

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

علاء سعد حميده

من علاء سعد حميده

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية، عضو الهيئة الاستشارية للاتحاد العالمي للإبداع الفكري والأدبي.