د. أحمد زكريا

من الإشكاليات المعقدة التي تشغل عقل المجتمع البشري الآن إشكالية مفهوم الحرية، واختلاف الناس في فهمه على طرفين ووسط:

الأول: يريد الحرية المفرطة المطلقة التي لا تراعي دينا ولا عرفا ولا خلقا.

ويمثل هذا الاتجاه بقوة الملحدون واللادينيون من كل الاتجاهات،وعلى رأسهم نوال السعداوي.

الثاني: مفهوم ضيق جدا يضيق على الناس حياتهم،ويصادر فكرهم وعقولهم.

ويمثلهم بعض العقول المتحجرة في فهم النصوص الدينية من كل الملل،ولعل الصراع بين الكنيسة والعلماء في العصور الوسطى خير شاهد على ذلك.

الثالث: هو الفهم الوسط الذي يعطي للحرية قدرها وقيمتها، دون النزول بفهمها إلى الدرك الأسفل من الخروج عن طبيعة الإنسان كإنسان!

وهذا مذهب العقلاء من كل الملل.

الحرية هي التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيود مادية أم معنوية حتى الوصول للغاية المرجوة وهي السعادة.

وتنقسم الحرية إلى حرية لا تلتزم بضوابط وأخرى تلتزم بضوابط، فالأولى يرفضها العقل وتتنكر لها الشرائع السماوية والوضعية لأنها تؤدي إلى هلاك الحرث والنسل ولا تجلب للإنسان إلا التعاسة في الدنيا والخزي في الآخرة، لأن الحرية التي لا تلتزم بالضوابط لا يمكن أن تحافظ على حياة الإنسان أو تكوين أسرة سعيدة متماسكة بالعلاقات العائلية الطيبة ومن ثم تكون مجتمع مترابط وسعيد، مثلا: عندما يريد شخص ما أن يشرب الخمر ويقود سيارته تحت عنوان (الحرية) فإن نتيجته الهلاك له ومن يقابله في الشارع نتيجة القيادة وهو فاقد للوعي، أو شخص ما يريد ان يقود سيارته بسرعة هائلة في شارع مزدحم تحت عنوان (الحرية) فهذا العمل يجلب الكوارث للشخص والمجتمع، وهل يحق للشخص أن يغش في البضاعة أو العمل تحت عنوان (الحرية) فهذا العمل يؤدي إلى الإضرار باقتصاد البلد بشكل عام، وقد شارفت الأسرة في الغرب على الاضمحلال نتيجة الحرية المفرطة في العلاقات الجنسية والعلاقات العائلية مابين أفراد الأسرة الواحدة وغيرها من الأمثلة التي تبين مضار الحرية التي لا تلتزم بضوابط.

أما الحرية التي تلتزم بضوابط فهذه الحرية يقبلها العقل وتؤيدها الشرائع السماوية والوضعية لأنها تؤدي إلى بناء مجتمع سعيد ومتماسك نتيجة المحافظة على سلامة وأمن وصحة وحياة الفرد أو الأسرة ومن ثم المجتمع.

لهذا قام الإنسان بوضع قوانين تقنن التعاملات والأفعال والأعمال ما بين الإنسان وما يدور حوله من بيئة إن كانت هذه البيئة فيها حياة أم لا، فشرع القوانين التي تنظم الحياة الصناعية والاجتماعية والسياسية والمرورية والإعلام والحريات الشخصية وغيرها من القوانين الكثيرة التي تتفاخر بها البلدان المتقدمة والتي تمتاز بالحرية والديمقراطية في العالم.

هذه القوانين التي تعتبر المدافع الأكبر عن الحرية والخيمة التي تحتضنها والتي أصبحت اليوم مفخرة الإنسانية قد طرحها الدين منذ ألاف السنين ووضَّحها وشرحها ورّغَب عليها ولكن طغيان الإنسان وظلمه هو الذي ركنها إلى جنب، فعانى الإنسان ما عانى وقدم التضحيات الكبيرة حتى وصل إلى هذا المستوى من الوعي الذي التقى به العقل البشري مع تعاليم السماء بعد ان كان رافضاً لها فأخذ بتطبيقها بعد أن غلفها تحت عنوان القوانين الوضعية وهي في حقيقتها قوانين سماوية أخذها من الأديان أما بصورة مباشرة أو غير مباشرة نتيجة تواجدها في العقل الباطني للإنسان المشرع الذي حصل عليها من التعاليم الدينية، ولكن بقي الإنسان يسبح في وحل تجاربه الخاطئة البعيدة عن تعاليم السماء من خلال تشريعه القوانين الخاطئة فقد أعطى الحق في أقامة العلاقات الجنسية وجعلها حق لا يرضخ الى ضوابط، فعندما ظهرت مخاطر هذا الحق الموهوم إن كانت صحية أو اجتماعية بدأ بتقنين وتنظيم هذه الحرية من خلال طرح دراسة الثقافة الجنسية في مدارس الدول الغربية، وخطورة هذا المشروع كمن يسكب البنزين على النار لكي يطفئها وهذا نتاج ابتعاد الإنسان عن تعاليم السماء الحكيمة.

فنحن نحتاج لحرية منضبطة، تحفظ الإنسان كإنسان، لا نريد حرية تقذف الإنسان إلى مجتمع الحيوانات الذي لا ضابط له، ولا حد!

من د. أحمد زكريا

كاتب وباحث