صلاح المكاوي

لقد باتت الولادةُ الطبيعيةُ عملةً نادرةً  في زماننا هذا، بل عزَّ حدوثها، فصارت كأحمرِ الكبريت أو مُعاينة زُرقِ العفاريت!

 ولقد كانت النساءُ في الماضي البعيد تلدن في الحقول وهن يجمعن القطن أو يشتلن الأرز أو يقشّرن أكواز الذرة، ثم تلفُّ إحداهن مولودَها محتضنةً إياه قافلة إلى منزلها مساءً،

 ولقد رأيت بأم عيني وأنا طفلٌ غضُّ الإهاب لم أبلغ بعد مبلغ الشباب حينما داهمَتْ الولادةُ امرأةً تجرُّ رجليها مُتثاقلةً فوق كوبري نهر البوهية قاصدةً الحقل، وكاد طفلُها يندلقُ من بطنها؛ فحُمِلت لأقرب منزلٍ لتضعَ مولودها فيستهلَّ صارخًا في سهولة ويُسر، ثم صِرنا بعد ذلك نتذكرُ هذا الزمن الجميل داعين له بالسُّقيا، وأمسينا ننسجُ منه قصصًا وحكايات وأساطيرَ نقصُّها للصغار عند النوم!

إلى أن أظلَّنا زمانٌ اشتُهر ب (الولادة القيصرية) حيث يتم فيها شقُّ البطن والرحم لاستخراج الجنين عند تعذر الولادة الطبيعية، وعملت المباضِعُ العمياء منزوعةَ القلب في بطون بناتنا فشرعَتْ تشقُّها شقًّا في غِلظة وجفاء، وتريقُ على جنباتِها الدماء، فلا تكاد تجد بيتًا خلوًا من ضحاياها، وأضحى الأغلبُ الأعم من السادة الأطباء إخصائيي النساء والتوليد يضيقون ذرعًا بالولادة الطبيعية، فلا يطيلون لها بالًا؛ كي يحصدوا من نظيرتها مالا ومالا، ولقد عمل المِبضعُ في بطن زوجتي وبنتيَّ سبع مرات بمبرراتٍ  من الأطباء سامحهم الله  أحسبُها واهية، والله  بما يُضمرون في أنفسهم  عليم!

وباتت الولادةُ الطبيعيةُ لديّ حلمًا بعيد المنال، وأملا تلاشى واستحال؛ فهل يُرجى بعد الإدبار إقبال؟!

 إلى أن انتفضَت السُّطور من القصص والحكايا لتُمثّلَ واقعًا ملموسًا وكيانًا محسوسًا وتعيدُ الكرَّة من جديد، فقد عاينتُ ماعاينتُ اليوم!

الزمان: منتصف الشهر الفضيل رمضان، ومركز النور المبين الطبي بالبوها هو المكان،

أخي وابن عمي (نبيل المكاوي) ينتظر مولودته الأنثى  التى اشتاق لها كثيرًا  على أحرِّ من الجمر بعد ذكوره الذين أوسعوه ضجيجًا وصَخبًا، ولقد أوكلني بمتابعة تلك المهمة الصعبة؛ لأنه منشغلٌ بعمله في القاهرة.

وكنت على موعد مع شخصية فريدة من نوعها؛ شابٌّ في مهنة الطب طموح، يمتطي صهوةَ جوادٍ جموح، إلا أنه سَلُسَ له وأذعَن وانقاد، وعن جادّةِ الطب ما مالَ وما حاد بعدما تشرَّب علمَ أبقراط وبلغ فيه مبلغًا عظيما.

الدكتور (إبراهيم على الجوهري) إخصائي النساء والتوليد
الدكتور (إبراهيم على الجوهري) إخصائي النساء والتوليد

إنه الدكتور (إبراهيم على الجوهري) إخصائي النساء والتوليد ابن قريتي البوها، ذو الضمير الحي الذي ينبضُ بالصدق والموضوعية، تحسبُه لأول وهلة شابًّا وسيمًا مُدلّلًا لايُقحمُ نفسَه في الصعاب، يخشى المواجهة ويهاب، إلا أنني ألفيتُه شخصًا آخر؛

 رأيتُه ينتفضُ كعملاقٍ في مهنته، ويكأنه فريقٌ وحده  يصنع مالم يصنعه أساطينُ الطبِّ في التوليد، يتردّدُ من مكتبه إلى غرفة العمليات طيلة أربع ساعاتٍ ذهابًا وإيابًا لايكل ولايمل، يُعلّقُ المحاليل، ويدسُّ فيها الحُقن، ويستنهضُ الرحم محفِّزًا إياه بالطَّلق الصناعي والعلاجات الناجعة في خطوات مدروسة ومحسوبة بدقة بالغة، لم يشغله عن حالته شاغل، بل تفرغَ لها تمامًا، يتابعُ حالة الجنين بالاشعة التليفزيونية، يُفسحُ لرأسه شيئا فشيئا، فالأم لم تلد منذ عشرة أعوام، والرأس مُعلّقة، الضغطُ متقلّبٌ بين الارتفاع والانخفاض، الأم أنفقت التسعة أشهر ومرقت في الشهر العاشر، حجم الجنين كبير، الحالة صعبة جدا!

 ولكن لم تثنه تلك المعوّقات وغيرها عن المُضيّ قُدمًا في التوليد الطبيعي، لم يصدم أهل الحالة بالإصرار على التوليد قيصريًا وإرهابهم كغيره قائلا:

هذا ما أراه، الحالة صعبة جدا وأنا بذلت كل ما في وسعي، سأتصل بدكتور التخدير حالا، عليكم اتخاذ القرار، وإلا فاذهبوا إلى غيري!

هذه اللهجة التهديدية المُخيفة لم أرها في معجمه الطبي ولا بين ثنايا مفرداته، واستمر واثقًا من نفسه مُستمدًّا عزمَه من الله ثم من ضميره وقسَمه الذي عاهد الله فيه حين قال:

(أقسم بالله العظيم أن أراقبَ الله في مهنتي، وأن أصونَ حياة الإنسان في كافة أدوارها، وفي كل الظروف والأحوال باذلًا وسعي في استنقاذها من الهلاك والمرض والألم والقلق…إلى آخر القسم)

وفجأة صوت صراخ المولودة يجلجلُ في جنبات المكان!!

ابتسامةٌ عريضة ترتسم على وجه الدكتور إبراهيم، يزيّنُ الفخارُ مُحيّاه بعد ما كلّلَ الله بالنجاح مسعاه،

 انطلقت الحناجرُ تلهجُ بشكر الله اللطيف، ثم بالدعاء للدكتور الإنسان الذي كان سببًا في إسعاد الناس في رمضان.