أحمد الشريف

مع مطلع هلال شهر المحرم في كل عام، أقابل العديد من الأهل والأصدقاء وزملاء العمل فنتبادل التهنئة بالمناسبة العظيمة قبل أن أتبعها بالسؤال البسيط الساذج؛ في أي سنة هجرية نحن الآن؟!.

رغم بديهية الإجابة ويسرها إلا أن غيابها المؤلم عن أذهان الغالبية من الأمة الإسلامية في عصرنا الحالي..

وتَبَادُر نظيرتها «الميلادية الإفرنجية» إلى الأذهان كما يتبادر للمرء اسمه، تنبّئ عن مدى الضياع والتبعية والضعف الذي أصاب الأمة منذ أمد بعيد!.

ولع المغلوب بتقليد الغالب

وبالطبع أنا لا أدعو إلى نبذ التأريخ الميلادي واستبدال التقويم الهجري به،

فهذه غاية بعيدة لن ندركها في الوقت الحالي،

لأن هذا من نواميس الأيام التي يداولها الله بين الناس وما يتبعها من تبعية المغلوب وولعه بتقليد الغالب،

ولكن على الأقل نجتهد في جعل التقويم الهجري على قدم المساواة مع نظيره الغربي، ونحافظ على هويتنا ما استطعنا،

حتى يأتي الوقت الذي تستعيد الأمة فيه عافيتها وتعرف طريقها إلى العزة والصدارة مثلما كانت في أيامها الأولى!.

وقد يرى البعض أن أمر التأريخ الهجري ثانويا قليل القيمة في ظل المحن والنكسات التي أحاطت بنا من كل اتجاه،

وهذا اعتقاد خاطئ لا ريب، حيث كان العمل به أحد العوامل القوية في وحدة المسلمين وطريق نهضتهم.

وهو ما فطن إليه الخليفة العبقري «عمر بن الخطاب» أعظم حكام المسلمين على مر التاريخ.

فعندما تأهبت الأمة لمواجهة الفرس والروم وكانتا أقوى دولتين في العالم وقتئذ،

شرع «عمر» في العمل على توحيد الجزيرة العربية سياسيًّا من أجل لقاء العدو على أساس راسخ وقواعد ثابتة،

واتخذ في سبيل ذلك خطوات هامة منها:

إخراج يهود خيبر ونصارى نجران من جزيرة العرب، فأما اليهود فأجلاهم إلى الشام وأما النصارى فقد أخرجهم إلى العراق،

وأوصى بهم عماله هناك خيرا، وأمر بتعويضهم بأرض تماثل أرضهم التي تركوها.

وأيضا قام بخطوة هامة لا ينبغي أن يغفلها من أراد إقامة الدولة القوية المستقلة،

ألا وهى اتخاذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، موعدا للتأريخ الإسلامي،

وألزم المسلمين في أنحاء الجزيرة العربية وفي أطراف الدولة المترامية ألا يؤرخوا إلا بها.

ومن ثم تحققت وحدة العقيدة بوجود دين واحد، ووحدة الاتجاه باتخاذ تاريخ واحد.

فتمت له مع غيرها من التدابير الأسباب التي استطاع بها أن يواجه أعداء الأمة وهو واثق من النصر بإذن الله وتوفيقه. [١].

الرسول أول من أرخ بالهجرة

وجدير بالذكر في هذا الشأن وما يعظم من أهميته ويزيده قيمة ورفعة، معرفة أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، نفسه هو أول من أرخ بالهجرة،

وكان العرب من قبل يؤرخون بالوقائع الكبرى، كمحاولة تدمير الكعبة من قبل أصحاب الفيل، فصار عام الفيل حدا فاصلا تنسب إليه الأحداث.

فقد روى الإمام الطبري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة أمر بالتأريخ بالهجرة.

وذكر القلقشندي في «صبح الأعشى» أن ابتداء التأريخ بالهجرة حدث منذ العام الأول للهجرة،

كما يؤكد الإمام السيوطي أن الرسول لما كتب لنصارى نجران أمر عليّا -وكان يكتب له- أن يذكر أنه كُتب لخمس من الهجرة.[٢].

ولا تعارض بين المعروف من توحيد الأمة وحملها على التأريخ بالهجرة في عهد «عمر» رضي الله عنه،

مع بدايته في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم،

حيث كان العرب يؤرخون بالأحداث العظيمة وكانت الهجرة حدثا من أعظم الأحداث في ذلك الوقت،

ولكن هذا لا يمنع حدوث وقائع أخرى ربما يراها البعض أكثر عظمة وخطورة مثل وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم،

 أو فتح فارس وسقوط الإمبراطورية الساسانية العظيمة أو غيرها من الأحداث..

ولذلك نستطيع القول إن تثبيت الهجرة كحدث لبداية تاريخ الإسلام تم في عهد عمر بن الخطاب.

مؤامرة طمس التاريخ الهجري

وقد قرأت في كتاب رؤى مَقاصديّة  للفقيه الدكتور «وصفي أبو زيد» كلاما خطيرا بخصوص «المؤامرة» لطمْس التاريخ الهجري وإزالته،

وتجهيل الشعوب الإسلاميَّة به قرونًا متوالية، ففي القرن الثاني عشر الهجري الموافق للثامن عشر الميلادي،

عندما أرادت الدولة العثمانيَّة تحديث جيشها وسلاحها، طلبتْ مساعدة الدول الأوروبيَّة العظمى (فرنسا وألمانيا وإنجلترا… إلخ)،

فوافقوا على مساعدتها بشروط؛ منها:

إلغاء التقويم الهجري في الدولة العثمانيَّة، فرضَخت لضغوطهم،

ومثل ذلك عندما أراد خديوي مصر أن يَقترض مبلغًا من الذهب من إنجلترا وفرنسا؛ لتغطية مصاريف فتح قناة السويس،

اشترطتَا عليه ستة شروط؛ منها: إلغاء التقويم الهجري في مصر، فتمَّ إلغاؤه سنة: ١٢٩٢هـ – ١٨٧٥م، واستبدال التقويم الميلادي به!.[٣].

ورغم عدم وقوفي على وثيقة تاريخية تؤكد هذا الكلام،

وما أعلمه من أن اعتماد التقويم المسيحي في تركيا،

الذي حل محل التقويم الإسلامي كان في ٢٦ ديسمبر ١٩٢٥م،

بأوامر مصطفى كمال أتاتورك بعد سقوط الخلافة [٤]، 

إلا أن دلالته ظاهرة الوضوح في المحاولات المتكررة لتغريب الأمة وقتل هويتها لصالح المشروع الاستعماري الغربي منذ الحملة الفرنسية على مصر سنة ١٧٩٨م،

واستخدام الاستعمار لكافة الوسائل الحربية والثقافية التي آتَتْ أُكُلَهَا بسبب التخلف الحضاري وضعف الهوية وما نتج عنها من «قابلية للاستعمار»

 حسب قول المفكر الجزائري «مالك بن نبي»:

«يوم استأهل العربي لكل ما ترمي إليه المقاصد الاستعمارية، من تقليل قيمته من كل ناحية، حتى من ناحية اسمه»!.[٥]..

ومن أجل ذلك حرص علماء الأمة ومفكروها على التأكيد على الهوية الإسلامية والدفاع عنها، في ظل الإشادة الدائمة بفرعونيتنا،

والتغني بأمجادها والدعوة إلى إحيائها، وبلغ بنا الأمر أن هتف الهاتفون: «نحن أبناء الفراعنة»!.

الفرعونية.. وحضارة الإسلام

فلم تعد كلمة «فرعون» تثير في النفوس الكراهة والاحتقار ومعاني اللعنة والعار، التي ألحقها به القرآن.

وصارت الفرعونية حضارة وتراث أعز من حضارة الإسلام وتراثه!.

واعتدنا أن نشاهد في الإعلام يسخر من الهوية الإسلامية ويستهزئ بها وبشعائر الإسلام ومقدساته..

لدرجة أن التبجح وصل يوما بـ«صلاح جاهين» الذي تُمنح باسمه الجوائز هذه الأيام،

عندما سُئل، كيف تهاجم الإسلام ورجاله، وهو دين الدولة الرسمي؟!

فقال: «إذا كان الإسلام دين الدولة فسأحارب الدولة»!.[٦].

وكانت تلك الواقعة ضد الشيخ الجليل محمد الغزالي الذي استغل تواجده في أحد المؤتمرات سنة ١٩٦٢م،

في أن يدعو إلى ضرورة استقلال الأمة في تشريعها، فلا تكون عالة على غيرها،

وبوجوب تميزها في تقاليدها وأزيائها فلا تكون مجرد نسخة مشوهة للغرب في أفكاره وتقاليده،

فناله من سخرية صلاح جاهين ورسومه «الكاريكاتورية» الشيء الكثير!..

أهمية التأريخ الهجري

ولا تكمن أهمية التأريخ الهجري في التأكيد على الهوية فحسب،

بل تنسب إليه الشهور العربية وما فيها من عبادات إسلامية في مواسم معينة وخاصة شهر رمضان شهر الصيام والجهاد..

والوقائع العظيمة مثل فتح مكة سنة ٨ه‍ـ، وفتح الأندلس ٩٢ه‍ـ، قهر التتار في عين جالوت ٦٥٨ه‍ـ،

وفتح بلجراد على يد العثمانيين سنة ٩٢٧هـ، وغيرها الكثير[٧]،

وصولا إلى حرب رمضان ضد العدو الصهيوني سنة ١٣٩٣ه‍ـ،

والتي بكل أسف غالبا ما تُذكر حرب رمضان سنة ١٩٧٣م،

وليس هذا عند العامة فقط ولكني لاحظتها في كتب تاريخية ذات صبغة دينية مثل كتاب:

«مصر الإسلامية درع العروبة ورباط الإسلام»،

والذي نُشر في سلسلة عنوانها: نحو وعي حضاري معاصر!..

ولهذه المعارك والفتوحات أثر عظيم في غرس القيم وتربية النشء وصناعة الرجال،

وقد كان علي زين العابدين بن الحسين يقول:

«كنا نعلَّمُ مغازي النبي وسراياه كما نعلَّمُ السورةَ من القرآن»[٨].

فإنها مآثر سلفنا التي يجب أن نحفظها ونحفظ تاريخها،

فربما يأتي اليوم الذي نتداولها في مجالسنا ونزدري من افتخر بغيرها،

مثل شاه إيران الذي أقام الدنيا في أوائل السبعينات بمناسبة مرور ٢٥٠٠ عام على تأسيس الدولة الفارسية المجوسية،

ومثل قذافي ليبيا وطاغيتها الذي جعل التقويم العربي في بلاده من وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليس من هجرته كما تواترت عليه الأمة،

ومثل ولي العهد في أرض الحجاز الذي نحى التأريخ الهجري جانبا في إطار مشروعه التغريبي الجديد!.

الخميس ٤ محرم ١٤٤٣هـ – ١٢ أغسطس ٢٠٢١م.

هوامش المقال:

[١] جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، د/ محمد السيد الوكيل، صـ٩٠، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة، الطبعة الخامسة ١٤٢٣ه‍ـ.

[٢] موسوعة التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، د/ أحمد شلبي، ج١ صـ٢٨١، مكتبة النهضة المصرية، طبعة سنة ١٩٩٦م.

[٣] رؤى مقاصدية في أحداث عصرية، د/ وصفي عاشور أبو زيد،  جـ١ صـ٢٣٤، دار المقاصد..

[٤] أتاتورك، السيرة الذاتية لمؤسس تركيا الحديثة، أندرو مانجو، صـ٤٦٢، دائرة الثقافة والسياحة أبو ظبي، ٢٠١٨م.

[٥] شروط النهضة، مالك بن نبي، صـ١٥٢م، ترجمة د/عبد الصبور شاهين، دار الفكر، سنة ١٩٨٦م.

[٦] الشيخ الغزالي كما عرفته، د/ يوسف القرضاوي، صـ٥٣، دار الشروق الطبعة الأولى سنة ٢٠٠٠

[٧] جمع الدكتور محمد سليم العوا العديد منها في كتيب بعنوان: أيام من رمضان، طبعة دار الشروق..

[٨] الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الإمام الحافظ الخطيب البغدادي، حديث رقم ١٦٤٩، مجلد٢ صـ٢٨٨، مؤسسة الرسالة ..