لم يسجل لنا تاريخ الشيخ الشعراوي شيئا عن حياة والدته سوى أنها امرأة طيبة ومطيعة ومغلوبة على أمرها، وأن ولدها لم يتركها بعد أن فتح الله عليه، وصحبته في سفرياته ولم تفارقه إلا بالموت.

كانت رحمها الله على عكس والده الذي روى الشعراوي كثيرا عن تحفيزه له وتعبه ومجاهدته لدفعه للأزهر وتعليمه، وسعيه الدؤوب ليكون عالما من العلماء، فلم يبخل عليه بمال أو كتب أو أي مصاريف يحتاجها طالب العلم، حتى مع إجهاد ولده له في المصروفات متحايلا عليه أو معجزا له، ليثنيه عن لزوم الأزهر، إلا أنه لم يعترض أو يتأخر في تلبية كل طلباته، ومعالجة كل محايله، فكان له الفضل الكبير على الأمة والأزهر والدين والعلم، حينما خرّج هذا العالم الجسور والداعية المحبوب.

لكن ماذا عن هذه الأم التي لم يذكر عنها شيء، أيعقل أن لا يكون لها أي دور في تفوقه ونبوغه؟

ربما لم يرو عنها خبر أو يذكر لها دور، فقد أخذ هذا الوالد نصيب الأسد في صنع مستقبل ولده المشرق، لكن لا شك أن لها تأثير شأنها في ذلك شأن جل أمهات العظماء من العلماء والأدباء والمفكرين.

ولعلنا في هذا الموقف الذي سنرويه نلمح شيئا يهدينا إلى طبيعة هذه الأم، وما كان يمتلئ به قلبها من الهمة والحماس والإصرار على ركوب المعالي ونيل الصدارة والتميز والغلب على الأقران..

ما هذا الكلام الكبير؟

أيعقل أن تكون مثل هذه الأم الطيبة لها كل هذا الأثر غير المعلوم في حياة هذا العلم المبرز في حياتنا؟

تعالى واقرأ معي هذا الموقف ليكون الحكم لك بعد ذلك.

يقول الشيخ الشعراوي:

«أذكر أنه في الذكرى العاشرة لسعد باشا زغلول حيث احتفلوا به في قريته دقادوس، حدث شيء لا أنساه.. وهذا الشيء لا يتعلق بسعد باشا ولا بالنحاس باشا وإنما يتعلق بأمی.

كانت البلد قد خرجت كلها لتحضر الاحتفال.. وتكلم الخطباء الواحد بعد الآخر.. وجاء دوري في النهاية.. ووقفت لألقى القصيدة التي أعددتها لهذه المناسبة.

كانت القصيدة طويلة إلا أنها أثارت حماس الحاضرين وإعجابهم وأخذوا يرددون ويقولون في عقب كل بيتين: «أعد يا شيخ.. أعد يا شيخ.. فكنت أستجيب لهم وأعيد.

وعندما انتهت الحفلة.. وذهبت في إلى البيت.. وجدت أمي قاعدة على الباب زعلانة وعندما لمحتني قادما.. أشاحت بوجهها عني.. فاندهشت.. ماذا جری؟!

قلت لها بلهجتنا وكما تعودنا «سالخير يا أمه»

فلم ترد.. كانت زعلانة

سألتها: مالك يا أمة.. حصل حاجة ؟!.. إيه اللى جرى؟! فلم ترد..

فعدت أسألها: أبويا حصل منه حاجة؟ فنظرت إلى في غضب واستنكار.. ثم أشاحت بوجهها عني.. وجاء والدي في هذه اللحظة فوجدها على هذا الحال.. فسألها بدوره: مالك زعلانة ليه إيه اللي حصل؟ فلم ترد عليه… وتصور والدي أنني أغضبتها، فسألها في انفعال الولد ده حصل منه حاجة؟! ورددت أمي وهي تنظر إلى في غضب واستنكار – اسأله إيه اللي حصل؟

وسألني والدي في غضب: حصل إيه يا وله ؟! قل لي إيه اللي حصل؟

ولم أجد ما أقوله.. فأنا لم أفعل شيئا يغضبها!

وقالت أمي وهى مازالت غاضبة وفي استنكار: الولد ده كسفنا قدام البلد كلها وخلى رقبتنا زى السمسمة وأضافت وهي ترمقني في غضب: اخص عليك واندهشت واندهش والدي أيضا.. وسألها

عمل إيه الوله ده؟! قولي.. انطقي؟!

قالت في استنكار بالغ: كل واحد من اللي اتكلموا في الحفلة.. قام وقال كلمتين ونزل وقعد في مكانه.. أما ده.. حضرة الشيخ .. فقعد كل ما يقول كلمتين.. الناس ترد عليه.. وتقول له: «أعـد يا شيخ.. أعد يا شيخ علشان موش حافظ الكلمتين بتوعه!.. لما كسفنا قدام البلد كلها.. واشتد سخطها وغضبها وهى توجه كلامها لي وتقول: اخص عليك!.

وعادت فنظرت إلى والدي وقالت في عتاب: موش كنت تقول له.. يبقى يحفظ الكلمتين بتوعه كويس.. قبل ما يقف قدام الناس ويفضحنا وتركتنا ودخلت البيت.

وضحكت، وضحك والدي كثيرا.. وقال: – أنا موش قلت لك من زمان.. إن أمك دي أكبر واحدة مغفلة في البلد.

يذكر الشيخ أن النحاس باشا حينما علم بهذه القصة ضحك وقال: أنا عاوز أشوف أم الشعراوي، وفعلا لقيها وضحك كثيرا طوال اليوم»

وبعيدا عن الفهم الخاطئ.. لقد كانت هذه الأم وبهذه العقلية وبهذا الفهم، لا تقبل لولدها أن يكون من المقصرين ولم تقبل له أن يتفوق عليه أحد، وهو الموقف الذي رغم سذاجتها فيه، إلا أنه أظهر أنها أم جديرة بهذا العملاق تحفيزا وهمة ودفعت للصدارة.