لقد أوشك هذا العام على الانقضاء وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، ليودعنا بنجاحاته وخيباته، بآماله وآلامه، ليصير في ذكراه كل منا ذكريات له يحملها في مخيلته.

أما أنا فقد حدث لي معه أو فيه درس لا أنساه، وموقف لا يتوه عني ما حييت، وأحب اليوم أن أرويه لكم لتروا وتتعلموا وتتعجبوا، ولتؤمنوا إيمانين

أولاهما أن الخير أوشك أن يغيب عن الدنيا،

والثاني وقد كان نقيضه وهو أن الخير مازالت معقودة نواصيه في هذه الحياة..

ولكن حظ كل منا على أيهما وقع، وقد كنت فيمن وقع في الاثنين فبدا له بون الفارق، وسعة الاختلاف.

يبدو أننا يومًا بعد يوم نصدم في كثير من الأسماء والشخصيات التي تحيط بنا في دنيا الأدب وساحة ذلك الوسط الأعمى عن حقائق الناس ومعادن البشر ونوعيات النفوس.

وأنت هنا يجب أن تتعلم، أن فلانا ليس معنى أنه أديب، أي أنه ملاك ورسول وشيء رهيف نادر الوجود.. أبدًا أبدًا.. إنه إنسان تكمن فيه كل تلك الصور التي تكون في البشر العاديين، من القسوة والنفاق والأنانية والخداع والغباء وحب الذات، والسعي للمصلحة وقلة الذوق والاحترام.

منذ أسابيع كنت أعد بضع صفحات حول شخصية من الشخصيات الأدبية، ورحت أبحث في الإنترنت عن أي مقال أو كلمة أو لمحة عن هذه الشخصية، أستفيد بها فيما أكتب،

وظللت أبحث كثيرا في صفحات جوجل المتتابعة، حتى وقعت على رابط فيه بحث صغير يتناول جانبا من جوانب هذه الشخصية التي أريد الكتابة عنها، ونظرت لاسم الكاتب فخيل إليّ أن اسمه مر عليّ من قبل،

واكتشفت وجوده على الفيس بوك، وبدأت أراسله بعد أن علمت أن ما قدمه جزء من بحث قام به عن تلك الشخصية، وقلت له: السلام عليم أستاذنا الكريم، فرد علي: وعليكم السلام أستاذنا النبيل،

استبشرت كثيرًا بهذا الذوق الرفيع في الرد والاستجابة السريعة، مما شجعني الدخول مباشرة في الموضوع،

وقلت له: عرفت أن حضرتك لك بحث عن فلان، فهل هو مطبوع أو متاح لأنني بصدد الكتابة عنه.

وانتظرت رد صاحبنا الذي أشار لي الماسينجر برؤية رسالتي، ولكنه لم يعرني أي اهتمام، فقلت: لعل به عذر فلنصبر عليه،

ومر يوم ويومين، وأرسلت له إشعار آخر فرآه، ولم يرد عليه مهملا أمري، فتبين لي أن الرجل لا يريد الحديث معي، هو حر فلست أبكي عليه ولا أندم على تعاليه،

وما عليّ فلأنظر في مقاله، وماذا يقول فيه، فلعله يفتح لي بعض الأفكار والآفاق التي تخدمني في بحثي الذي أتناوله،

وكنت قد أرسلت رابط هذه الصفحة من مقاله على الواتساب الخاص بي لحين احتياجي له، ولما فتحت الرابط لم أجد في المقال إلا 7 أسطر عن الشخصية المقررة،

فقلت، لعل الهاتف أو النت سيء فلأجرب الحاسب، فوجدت نفس الشيء، عرفت سريعًا ذلك السر الذي جعل صاحبنا لا يرد عليّ ويهمل حديثي إليه،

لقد سارع كالبرق الخاطف ليحذف هذا الجزء من بحثه، حتى لا أستفيد منه، أو أقتبس منه فكرة ما، أو ربما ظن أنني يمكن أن أسطو على أفكاره، وأسرق عمله كما سوّل له عقله،

لكنني لا أخفيكم فقد تهت في مشاعر عريضة من الحزن والعجب، من هذا التخوين وهذا الإهمال وقلة الاحترام وانعدام الذوق،

كان يمكن بكل وضوح أن يرفض أن يعطيني شيئا أو يخبرني أنه بصدد عمل كتاب ولا يحب أن يطلع أحد على أفكاره أحد،

لكن هذه المسارعة في التخوين، كانت أسبق للرجل الذي تعامل معي بتجاهل وإهمال شديد،

ثم تذكرت وأنا في براثن هذا الضيق، أنني فتحت صفحة هذا الرابط من اللاب توب وأنه مازال مفتوحا،

فسارعت إليه ووجدت الصفحة بحالها فنسختها في ملف ورد، لا لقراءتها فقد كرهت أن أقرأ حروفا لمن هذا تصرفه معي،

ثم قمت كذلك بتصوير هذا المختصر البحثي في عدة لقطات بكاميرا الموبيل،

ثم أرسلتها له أخبره فيه بأنني قرأت ما كتب ولم أستفد منه في شيء، وأنني بحثت عن الموضوع فوجدته قد حذف، وأن الملف بكامله موجود لدي لو احتاجه.

شعر بالخجل ورد علي سريعا بكلمات فيها دعوات بالتوفيق لكتابي وأنه انشغل كثيرا فلم يستطع إجابتي.

لكنه يعلم داخل نفسه رسالتي التي أردت توجيهها إليه.

وتذكرت نفسي حيال هذا الموقف الدنيء، حينما يطلب مني بعض الأصدقاء شيئا من مقالاتي فأقول لهم: انشروها حتى ولو كانت مجردة من اسمي، فأنا والحمد لله أحب الخير لكل الناس ولا أمنع العلم أبدا عمن يريده، حتى السراق لا يهمني أنهم سرقوا بقدر ما يهمني أن أفكاري سيقرأها الناس.

كما أنني والحمد لله لا يمكن أبدا أن أنقل فكرة من أحد، أو أسرق شيئا كتبه، بل على العكس حينما أريد الاطلاع على ما كتبه الغير في الموضوع الذي أكتب فيه، فذلك لكي أتجنب ما كتب عنه، حتى يكون فيما أكتب تميز ترتضيه نفسي.

صورة مقابلة ونقيضًا مدهشًا

ولم يكن الحق سبحانه ليخرجني من هذا العام دون أن ألمس صورة مقابلة ونقيضًا مدهشًا،

صنعته وتحلت به كريمة الأصل والمعدن والخلق والمروءة، معالي الدكتورة عزة البكري،

فقد شُغلت في بعض أعمالي بالكتابة عن العلامة الراحل الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله،

ورغم أن الانترنت ملئ بالحديث عنه، وحتى هو رحمه الله قد كتب قصة حياته، في كتاب عنوانه (ظلال من حياتي) وأدرج كثيرا من ذكرياته في موسوعته أعلام النهضة الإسلامية،

إلا أنني وفي أثناء بحثي عن جوجل، قرأت أن هناك رسالة ماجستير كُتبت عن الراحل وتناولت حياته وأدبه وشعره،

وبلهفة أخذني شوق عارم ورغبة جامحة في الوصول لهذه الرسالة وقراءتها، لأرى كيف تناولت الباحثة حديثها عن الراحل الكريم،

ولكن كيف الحصول والوصول إلى الرسالة وصاحبتها، قرأت أن العلامة القدير معالي الدكتور المحقق العملاق النبوى شعلان كان مشرفا على الرسالة،

فاستطعت الوصول إليه والاتصال بفضيلته، لكنه أخبرني أنه لا يتذكر الرسالة وليست عنده، فقد كانت منذ زمن بعيد.

تملكني اليأس بعض الشيء، ولكني أخذت أبحث وأتقصى حتى علمت أن الدكتورة عزة البكري تعمل في كلية الدراسات الإسلامية بأسيوط، إذن فليكن بحثي صوب أسيوط، من منها ومن يدلني على غايتي؟

لم أجد أحدا، وفي لقاء جمعني بأستاذنا الكريم وشاعرنا الكبير دكتور بسيم عبد العظيم، أخبرني أن له معرفة في أسيوط، واتصل بمعارفه، وسألهم عن اسم الدكتورة عزة البكري، فجاء الرد بأنها صديقة وزميلة عمل، وبدهشة أكبر حصلنا على رقم هاتفها.

واتصلنا بها وعرضنا عليها طلبنا وغرضنا، فإذا بنا نجد تواضعا كبيرا وترحيبا كثيرا ونفسا أريحية لأبعد حد ووعدا بالحصول على الرسالة.

وسريعا سريعا كلفت زوجها الكريم بتصوير المطلوب من الرسالة وأخبرتني أن مكائن التصوير يظهر أجزاء منها ببقع سوداء تخفي الكلام فما الحل، قلت لها هل يمكن تصويرها بالهاتف؟ فإن ذلك لو حدث لأوفى بالغرض،

لم تمل الدكتورة من طلباتي وإلحاحي، بل كانت أكثر مني حرصا على تلبية طلبي، وكلما حاولت شكرها ومدح نفسها الكريمة، قالت لي: هذا علم ولا يمكن لي أن أمنع العلم.

وإذا بها لم تمر لحظات حتى وجدتها أرسلت لي ما يقارب 60 صفحة مصورة،

كنت سعيدا بالحصول على الرسالة، ولكني لا أخفيكم أن سعادتي الكبرى أن وجدت هذا التعامل الكريم، وهذه النفس السامية التي تحرص على قضاء حاجات الناس بتفان وإخلاص.

عدت أدراجي أمام ما فعلته الدكتورة عزة البكري، وأمام ما فعله صاحبنا آنف الذكر، فقلت في نفسي: فرق كبير بين الأصل والخسة، بين التواضع والكبر، بين أهل الكرم والبخلاء الأنانيون.