«ولو كانت تلك الجرة قد رأت فرعا من دجلة الله لفنيت فناء…..

وكل من رأوه غائبون دوما عن ذواتهم، وبدون أن يدروا حطموا جرارهم بالحجارة……

 وانكسرت الجرة لكن الماء لم ينصبَّ منها، وانبعث مائة سلامة من هذا الانكسار».

تلك عبارات سيفهمها القارئ بعد قراءة ملخص قصة سأوردها فيما يلي:

أعرابي بدوي طاعن في السن يعيش وزوجته في صحراء قاحلة، في هناء وسلام ومحبة، لا يملكون من دنياهم إلا خيمة ذات عمود، وجرة ماء، وكسرات خبز.

ولم يعكر صفو حبهما شيء على طول عمرهما، ولكن فجأة تمردت العجوز على هذا الشظف والفقر، فطالبت زوجها بتوسعة في العيش أو مفارقتها، تعجب الزوج من شأن زوجته قائلا لها مشتدا في رد فعله: «إما أن ترضين بحالنا وإما أن أفارقك وأغادر المكان وأتركك».

راجعت العجوز موقفها ثم أقبلت على زوجها معتذرة متأسفة نادمة طالبة منه البقاء، فرجع إليها وتصالحا، لكنها اقترحت عليه اقتراحا رأت أنه ربما يكون حلا للفقر المدقع الذي هم فيه.

قالت له بعد أن نظرت إلى جرة الماء الذي جمعه زوجها من ماء المطر، وتلك الجرة ثروة هائلة طائلة بالنسبة لهما، فقد ظنا أنهما يملكان شيئا لا يملكه حتى الخليفة أمير المؤمنين في بغداد «دار السلام» قالت له العجوز: خذ هذه الجرة المليئة بماء السماء وقدمها هدية لأمير المؤمنين فهو لا يملك مثلها، لعله يهديك هدية أو يعطيك عطاء نوسع به على أنفسنا.

أعجب الرجل بفكرة العجوز وطمع في عطاء واسع من الخليفة، تجهز لتنفيذ الفكرة، فلف الجرة في «لُبّاد» «الخيش» وحملها على ظهرة المنحني، ومضى بها أياما يسير يقطع الفيافي والقفار في حر شديد، وكله يقين أنه يحمل للأمير هدية ثمينة لا يملك مثلها أمير المؤمنين، فهي جرة ماء طاهر نقي من ماء السماء، وأنَّى لأمير المؤمنين بمثلها؟ هكذا تصور هذا المسكين.

وصل بغداد بعد عناء ووعثاء، سأل عن قصر الخلافة فدُلَّ عليه، سار حتى وصل إلى بابه فرآه الحراس والحجاب، أنكروا هيأته الرثة، وسألوه عن مراده، طلب منهم مقابلة أمير المؤمنين وأخبرهم أنه يحمل له هدية عظيمة، هي تلك الجرة التي يفتخر بها، وهي أغلى ما يملك.

ظن الحراس أن بعقله شيئا، لكنهم بالفعل استأذنوا له أمير المؤمنين. فأذن لهم بكل إنسانية ورفق، فلما دخل عليه تعجب الأمير، وبدأ يسأله من هو؟ ومن أين جاء؟ ولم جاء؟ والأعرابي يقف موقف المفتخر وبدأ في مدح هديته «الجرة»، وأنها جرة ماء من ماء السماء، مبارك طاهر. وأنه جاء بها ليقدمها هدية لأمير المؤمنين.

فأيقن الأمير أنه جاء للعطاء، فقبل الجرة منه.

وطلب من جنوده أن يفرغوا الماء ويملئوا الجرة له ذهبا، فرح الأعرابي فرحا شديدا، بذلك العطاء الذي لا تساوي الجرة منه شيئا.

أمر الملك جنوده أن يركبوه قاربا يحمله في دجلة إلى مكان يقارب خيمته بدلا من السير في الصحراء حفاظا عليه من اللصوص وقطاع الطريق فالسير في دجلة آمن وهو كذلك أقرب بكثير من عبور الصحراء.

أخذه الجنود متجهين إلى دجلة، فسألهم الأعرابي إلى أين؟

قالوا له إن نهرا اسمه دجلة يجري تحت قصر أمير المؤمنين وستركب فيه قاربا ليوصلك إلى أقرب مكان لتعود إلى زوجتك.

رأى الأعرابي النهر، يموج ماؤه العذب الزلال.

تعجب الأعرابي وأسقط في يده لما رأى أن الأمير لديه نهر دجلة على سعته يجري تحت قصره، وهو الذي ظن أن الأمير لا يملك جرة ماء مثل جرته.

ما جرته بجوار دجلة؟ وماذا يستفيد الأمير من جرة وتحت قصره دجلة.

كسر الأعرابي جرته، بعد أن انكسرت نفسه لعلمه بحقارة جرته بجوار من لديه دجلة كله.

الآن ارجع أيها القارئ للسطور الأولى في أول المقال وتدبر كلماتها.

وإن لم ترجع فالقصة رمزية كتبها صاحبها في صفحات طويلة لخصتها لك فكرتها.

تقول لك: إن أعمالنا التي نعملها لله تعالى تشبه تلك الجرة في قلتها فكيف ندخل على الله بها مفتخرين معجبين؟

أين جرتنا من عطاء الله تعالى، أين جرتنا من دجلة الله؟

ألم يكن الأجدر بنا الحياء من ربنا، ونحن نعجب بأعمال نحسب أنها كبيرة لكنها أمام دجلة الله لا تساوي شيئا.

إن الانكسارة التي انكسرها الأعرابي لما رأى دجلة، هي التي يريدها الله منا لا تلك الجرة التي حسبناها شيئا.

فلنكسر تلك الجرة وندخل عليه بالانكسار والذل.

أين جرتك التي تقدمها للملك من دجلته.

د. أحمد زايد

من د. أحمد زايد

أستاذ مشارك في كلِّيتي الشريعة بقطر، وأصول الدين بالأزهر