د. أحمد زكريا

رحلة الحج، هي رحلة التوثيق لخيرية هذه الأمة، وعلامة الصدق على تمسك هذه الأمة بدينها ونبيها ومنهجها، ففي الحج تظهر الأمة استسلامها وانقيادها لأمر ربها ومولاها، وتعلن ولاءها المطلق لله وللرسول.

سطر المسلمون ملحمة من الحب الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما تركوا شاردة ولا واردة فعلها عليه الصلاة والسلام إلا تعقبوها وحفظوها وطبقوها ونقلوها بنزاهة وأمانة منقطعة النظير.

 انظر إليهم: يقصون رحلة حج النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنك تشاهدها رأي عين، لأن الرسول كان لهم أبا وقائدا ومعلما، فهو (صلى الله عليه وسلم) أحب إليهم من أنفسهم.

وذلك شأن المحب الوامق.. والعاشق الصادق.. الذي يرى كل شيء لمحبوبه حسنا. فليتلذذ بذكره.. ويسترسل في حديثه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا يحصيها ولا دقيقة نادرة إلا يستقصيها. يتطيب رسول الله عند إحرامه فيذكرون من باشر هذا التطيب.. ويذكرون نوع هذا الطيب. فيقولون: «ثم طيبته عائشة بيدها بذريرة وطيب فيه مسك.. حتى يرى وبيض المسك في مفارقه ولحيته (صلى الله عليه وسلم) ويشعر رسول (صلى الله عليه وسلم) هديه».

فيذكرون تفصيله وتحديده.. هل كان في الجانب الأيمن أو الأيسر؟.. وكيف سالت عنها الدم؟. ويذكرون احتجامه.. والاحتجام فعل طبي طبعي لا صلة له بمناسك الحج.. فيحددون مكانه من الجسم.. وموضعه من الطريق. فيقولون: «واحتجم بملل» «وملل موضع بين مكة والمدينة على سبعة عشر ميلا من المدينة» ويقولون: «واحتجم على رأسه بلحي جمل».. «وهو موضع في طريق مكة» وتهدى له قطعة لحم.. وهي حادثة عادية تتكرر ولا تسترعي الاهتمام في عامة الأحوال.. فيذكرونها بالتحديد والتفصيل.

فيقول الراوي: «حتى إذا كانوا بالأبواء أهدى له الصعب بن جثامة عجز حمار وحشي».. ويحددون المنازل بين المدينة ومكة.. ويعدون أيامه في السفر.. وذلك في زمان لم يعرف الناس فيه كتابة اليوميات،وتدوين المذكرات، ولكن الحب يلهم ويخترع. فيقول الراوي: «ثم نهض إلى أن نزل بذي طوي.. فبات بها ليلة الأحد لأربع خلون من ذي الحجة.. وصلى بها الصبح.. ثم اغتسل من يومه ونهض إلى مكة» ولم تفتهم شاردة ولا نادرة في هذه الرحلة التي كثرت فيها الشواغل.. وتعددت فيها المنازل.. واشتد فيها الزحام.. فلم يفتهم أن يقيدوا خروج حية في هذا المشهد الحافل.. وإفلاتها من القتل.

فيقول الراوي وهو يذكر ليلة منى: «وخرجت حية وأرادوا قتلها.. فدخلت في جحرها».

ويذكرون كل من كان رديف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة.. ويذكرون اسم الحلاق وكيف قسم شعره ومن خصهم بالشق الأيمن، ومن خصهم بالشق الأيسر. وهذه كلها تفاصيل ودقائق لم يكن مصدرها إلا الحب العميق.. ومن العبث وإضاعة الوقت أن يبحث عن نظائرها في رحلات القادة.. وتاريخ المشاهير.

وقد أخلت أمم كثيرة بحياة أنبيائها وسيرهم وأخبارهم.. ومراحل حياتهم.. وضيعوا منها الشيء الكثير الذي لا تكمل حياتهم ولا يتم تاريخهم إلا به.. ولم يحافظوا إلا على النزر اليسير من أخبارهم وأحوالهم. فجل ما نعرف من حياة سيدنا المسيح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام..هو أخبار السنوات الثلاث الأخيرة من سيرته وأخباره. وهنالك أصحاب رسالات وديانات في بلاد متمدنة عريقة في العالم لم تبق إلا أسماؤهم ونتف من أخبارهم لا تشفي العليل ،ولا تروي الغليل،ولا تقود الأجيال ولا تنير السبيل.

وكلما قرأت كيف حج الرسول الكريم.. وكيف أسس المنهج الثابت بقوله «خذوا عني مناسككم».. وقوله «افعل ولا حرج».. تاقت النفس لأداء تلك الفريضة لكي أتلمس تلك الأماكن التي شرفت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) حاجًا ومعتمرًا ومعلمًا وميسراً.. بأبي هو وأمي (صلى الله عليه وسلم).

كم تمنيت أن أكون في صحبته وهو يستلم الحجر ويقبله وتتحدر العبرات من عينيه الشريفتين.. وهو يقول لعمر: «هنا تسكب العبرات يا عمر». فاللهم لا تحرمنا فضلك.. واكتب لنا حج بيتك الحرام عاجلا غير آجل.

من د. أحمد زكريا

كاتب وباحث