لقد أُسرِي بالنبي الخاتم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به من سماءٍ إلى سماء إلى ما شاء الله من القرب والدنوّ؛ حتى رأى من آيات ربه الكبرى.

وإذا كان النبي قد عُرِج به إلى ما لا يرقي إليه الراقون -لا من الأنبياء ولا من الملائكة المُقرَّبين- فإنَّ العلم هو «معراج» التقدم الحضاري للأمم وأساس نهضتها ورقيها، فليس عبثًا أنْ تكون الكلمة الأولى في كتاب الله: {اقْرَأْ}. وليس عبثًا أنْ تتكرر مرتين في آيات ثلاث، وليس عبثًا أنْ ترِد كلمة «عِلم» ثلاث مرات، وأنْ ينوَّهَ بـ (بِالْقَلَمِ) في قوله تعالى:

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5].

وليس عبثًا – كذلك – أنْ تبدأ ثاني سورة في كتاب الله بأدوات العلم – القلم والكتابة – في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1].

إنَّ كلمة {اقْرَأْ}، ولَّدت حضارة جديدة «أدهشت النبي الأُمِيَّ وأثارت معه وعليه العالم؛ فمِن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونًا طوالًا تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي. ومما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صُنْعِ السياسيين ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناسٍ يتَّسمون بالبساطة، ورجالٍ لا يزالون في بداوتهم، غير أنَّ أنظارهم توجهت في تلك اللحظات إلى ما وراء أفق الأرض أو إلى ما وراء الأفق القريب، فتجلَّت لهم آيات في أنفسهم، وتراءت لهم أنوارها في الآفاق». [مالك بن نبي: شروط النهضة].

لقد تحوَّل هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة عندما مسَّتهم شرارة الروح القرآنية {اقْرَأْ}، وارتقى بهم معراج «العِلم» إلى أرقى من الفلاسفة، فأصبحوا أساتذة للدنيا وقادة للعالمين..، ومَن يُطالع كتب الحضارة الإسلامية يجد أن جامعات المسلمين في الأندلس كانت قِبلة لأبناء الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين وغيرهم، وهذا ما يؤكده المنصفون من علماء الغرب، يقول أحدهم: «العِلم هو من أجَلِّ خدمة أسدتها الحضارة العربية إلى العالم الحديث.. وإنَّ العلم الأوربي مدين بوجوده للعرب». [روم لاندو: الإسلام والعرب].

إنَّ ما نملكه من حضارة وتاريخ عريق جعل «عصمت إينونو» – ممثل تركيا لدى عصبة الأمم – يرفض مصافحة الحاكم الإنجليزي «اللورد كيرزون» – سكرتير عام عصبة الأمم آنذاك – لمَّا تركه ينتظر في استراحة مكتبه دون أن يستقبله لمدة خمس عشرة دقيقة، ويقول له: «عندما كان أجدادك يتخذون من قشر الأشجار وجلود الحيوانات لباسًا لهم، كان أجدادي يؤلفون كتبًا في الفلسفة والعلم». [وحيد الدين خان: نحو بعث إسلامي].

إن البون شاسع بين الأمس واليوم، بين الأمس حيث التقدم والازدهار، وبين اليوم حيث التراجع والانكسار الذي تعاني فيه الأمة من مشكلة التخلف الحضاري، مع أنَّ كتابها المقدس ركَّز من أول لحظة على الأمر بالقراءة والإشادة بالعلم!

إنَّ العلاج الناجع لمشكلة التخلف الحضاري لن يكون إلا بالعِلم بكل جوانبه؛ فالذي يملك «العِلم» في عالمنا المعاصر يملك القوة والتقدم والريادة، فالسباق الحقيقي بين الأمم ليس في ميادين الوغى، وإنما بين العلماء في المعامل، وبين العمال في المصانع!

فلا غرو أنْ رأينا صاحبَ «وحي القلم» يستلهم  روح «العِلم» كمعراجٍ للتقدم الحضاري؛ فينبعث قلمه – بين يدي حديثه عن الإسراء والمعراج – بهذه الكلمات:

كيف يستوطئ  المسلمون العجز، وفي أول دينهم تسخير الطبيعة؟!

كيف يستمهدون الراحة، وفي صدر تاريخهم عمل المعجزة الكبرى؟!

كيف يركنون إلى الجهل، وأول أمرهم آخر غايات العلم؟!

كيف لا يحملون النور للعالم، ونبيهم الكائن النوراني الأعظم؟!ض لنفحاته من المغفرة والرحمة والعتق من النار..، والشقيُّ المحرومُ مَنْ أدركَ رمضان؛ فحُرِمَ خيره، وودَّعه رمضانُ ولم يُغفر له، ذاك الذي خاب وخسر ولَصِق أنفه بالتراب ذِلةً وعجزًا!

من د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي