هذه واحدة من أعمال نجيب محفوظ الصادرة عام 1972، يصعب أن تصنفها في فئة الرواية أو المجموعة القصصية، فهي أقرب إلى عرض بانورامي  لنحو 50  «بروفايل» لشخصيات تعرف عليها الراوي طيلة حياته في العهدين الملكي والجمهوري. وكيف تجلت في الشخصيات تغيرات الزمان والمكان.

لا نتعرف في «المرايا» على الشخصيات عبر «الزمكان» فحسب، بل نرى زوايا مختلفة من هوياتهم باختلاف موقع الناظر إليهم في المرآة متعددة الانعكاس حد التناقض.

سيرا على نهج دوستيوفسكي وتشيخوف، أبدع محفوظ في تحميل الشخصيات ما يود قوله بشكل غير مباشر.

ومحفوظ ليس درويشا يهيم عشقا بمصر وفق النمط المقدس المكرور، ولا مغرما بعبقرية موقعها مثل جمال حمدان، بل عنده تحفظات عديدة على الشخصية وسلوكها وعلى نظمها السياسية المتعاقبة.

ولا عجب، فمحفوظ «حر»، وقد تعلم الحرية -بكلمات محفوظ نفسه- من الأستاذ «العقاد» الذي علم الجيل كله معنى أن يكون الكاتب حرا. 

دعنا نختار من «المرايا» الصادرة في 1972سلوك شخصية ناقدة ناقمة على المجتمع، يعطيها محفوظ اسم «عبد الرحمن شعبان»..

ويقول عنه:

«وبالرَّغم من مودتنا الحميمة فإنني لم أَسْلَم من غضبه، فيومًا كنت أقرأ الجريدة فاطلعتُ على صفحة مُخَصَّصة لذكرى سلامة حجازي، ونقلًا عن كاتبها قلت بسرور: هل تُصدق أنَّ فردي قال عن سلامة حجازي إنه لو كان وُلِد في إيطاليا لما كان له -فردي- شأن؟!

وإذا بالأستاذ عبد الرحمن يرمي بكتاب كان يقرؤه وصاح بي كبركان: ما هذا الكلام الفارغ! أتصدِّق أي كلام يتقوَّله هؤلاء الأوباش في الصحف؟.. مَن هو سلامة حجازي؟

إن أيَّ منادي سيَّارات فرنسي أعذب منه صوتًا، ولكن هكذا أنتم أيها المصريون، لن تزالوا غارقين في أوهام الكلمات حتَّى تموتوا، كوكب الشرق.. مطرب الملوك والأمراء.. سلطانة الطرب.. عاهل التمثيل في الشرق.. لو لم أكن مصريًّا لتمنيتُ أن أكون مصريًّا،

ولِمَ لا تتمنى أن تكون حمارًا، فيكون لك نفع على الأقل، نيلة تاخدكم أنتم وبلدكم!»

ويمضي عبد الرحمن متهكما:

«انظر إلى قذارة الشوارع في قلب المدينة! سيأتي يوم يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن!

وما رأيك في هؤلاء الغلمان الحفاة في شارع سليمان باشا؟!

انظر إلى هذا المنظر الفريد، الكارو والجمل والسيَّارة في قافلة واحدة، وتقولون الاستقلال التام أو الموت الزؤام؟!

أيعجبك حقًّا ذلك المقرئ المدعو علي محمود؟ رجل ضريرٌ مُنفِّر المنظر يزعق كالأبله، قارن ذلك بقُداس كاثوليكي تسبح في جوِّه الموسيقى الخالدة!

صدِّقني إنَّ رجال السياسة الذين تُعجب بهم لا يصلحون موظفين مبتدئين في سفارة أجنبية.

وهل حقًّا تُعجب بهؤلاء الكُتَّاب والأدباء؟.. إنهم أُميُّون على المستوى العالمي.

وملايين الفلاحين القذرين بأي منطق يستحقون الحياة؟ لماذا لا تستغنون عنهم بالآلات الزِّراعية الحديثة؟! 

إنَّ خير ما تمخضت عنه الحضارة المصرية هو الحشيش، ومع ذلك فما أقبحه بالمقارنة بالويسكي!»

ولا يتركنا محفوظ عالقين حيال هذه الصدمة الناقمة الناقدة، بل يعاجلنا بعد سطور قليلة بنهاية تريح القارئ الغيور،

فيجعل عبد الرحمن هذا يلقى حتفه على يد ثوار أردوه قتيلا بينما كان ساهرا في ملهى مع بعض الأصدقاء الإنجليز.

بعد أن حصل نجيب محفوظ على نوبل ذهب بعض النقاد إلى أنه قتل الرواية العربية، وقفل الأبواب أمام الأجيال القادمة بما قدمه من أعمال هائلة ضخمة وشيقة وعالمية !

وقد رفض كثيرون هذا الرأي كما رفضه محفوظ نفسه.

ويبدو لي أنه قد يكون حقا من الصعب صياغة رواية مثل الثلاثية أو أولاد حارتنا إلا أن نموذج «المرايا» بالغ الإغراء وقابل للتكرار في كل وقت من حياتنا في مصر.

وليس صعبا على أي أديب اليوم أن يكتب لنا «مرايا مصرية في 2023»!

د. عاطف معتمد

من د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.