وبعد المجهودات الجبارة، والتفكير الدقيق من الإمام ابن باديس وصنوه العلامة الإبراهيمي، استطاعا أن يحررا فكر الشعب الجزائري من تلك الأوهام التي ألصقها القوم في عقولهم، ثم كان تحرير الأرض بعد ذلك بكل بساطة؛ لذلك كان العلامة الإبراهيمي يقول:

[تحرير العقول أصعب وأشق من تحرير الحقول، ذلك ان تحرير الحقول يستطيع أن يقوم به كل شخص، أما تحرير العقول فلا يقدر عليه إلا راسخ في العلم، عميق في الفهم، صادق في العزم، مخلص في القصد.]

وبقي الشعب الجزائري يعيش في فكر مستقل لم يستطع أحد أن يُخضعه لأي أفكار إلا إن كانت مبنية على أدلة عقلية وشرعية، حتى لما جاءت الجبهة الإسلامية للإنقاذ التف الشعب حولها لأنها كانت تتبنى المنهج السلفي المبني على الأدلة الشرعية النقلية، التي تستصيغها الفطرة السليمة.

وكانت إرادة الله أن تدخل الجزائر في متاهة لا نظير لها، وحرب شعواء لا هوادة فيها، وكانت هذه الحرب بين أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ أصحاب المذهب السلفي، ضد النظام الذي قام بالانقلاب على الانتخابات، ولم تتوقف تلك الحرب وبالرغم من القوة الجبارة التي يمتلكها الجيش إلا أنه لم يتمكن من القضاء على الجماعات المسلحة التي كانت تحارب بكل قوة، وأثخنت الإثخان الكبير في الجيش، ما جعل قادة الجيش يفكرون في طريقة أخرى لمجابهة الجماعات المسلحة، فكانت الفكرة مقابل الفكرة، فاستعانوا ببعض شيوخ (الذين يسمون أنفسهم شيوخ السلفية العلمية)، مثلما استعان المستعمر بشيوخ الطرقية، وراح أولئك الشيوخ يطوفون الجزائر شرقا وغربا، ويحذرون الشباب السلفي من الالتحاق بالجماعات المسلحة، وبدأ الشباب يَقْبَل بدعوة هؤلاء الشيوخ لأنهم أتباع المذهب السلفي، وبدأ يظهر في الجزائر مذهب سلفي جديد اسمه السلفية العلمية، وبهذه الطريقة استطاع النظام الجزائري أن يتخلص من إشكالية الجماعات المسلحة.

-وإن كانت السلفية معروفة بتحررها وعدم تقيدها بمذهب معين، وأن لا مرجعية إلا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يشنون حربا شعواء ضد كل من يحمل الفكر السلفي الأول الذين أصبح يعرف بالسلفية الجهادية، وكانت كل حربهم ضد الطرق الصوفية والأشاعرة، ولأنهم يرون أن خَطَرَ الطرقية أكبر من اليهود والنصارى كما يزعمون، وحجتهم في ذلك أن الطرقية يشركون بالله في عبادته وفي توحيده وأنهم أتباع للشيوخ لا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

ولكن ما غاب عن المداخلة (الذين يسمون أنفسهم كذبا وزورا السلفية العلمية) ، أنهم أشد تشددا من الطرقية في التعلق بشيوخهم، فوجدناهم أكثر تعلقا  بشيوخ بأعينهم، وحصروا كل الدين وكل العلم في هؤلاء الشيوخ، وأن كل من خالف هذا الشيخ فهو ضَالٌ مُضِلٌ مُبتدِعٌ، بل وصل بهم الحد إلى أن أصبحت عندهم فكرة لم نجدها إلا عند النصارى وغلاة الطرقية، وذلك أنهم صاروا يحكمون على الناس بأن فلان ليس ضال فقط، بل حرام عليه دخول الجنة، و كأن الجنة صارت حكرا لهم وفقط، مثلما احتكرها الرهبان، ويغفرون للناس بصكوك الغفران، وهذا حاضر عندهم، فيشترط التوبة بين يدي الشيخ، مثل التوبة بين يدي القسيس أو الراهب.

أَلم يشعر هؤلاء القوم الأدعياء؛ بأنهم أشد تعلقا في شيوخهم من الطرقية، وأنهم أكثر غلوا في مشايخهم من النصارى في رهبانهم، وأنهم أصحاب الجنة وحدهم وكل من خالف شيوخهم فهو الضلال المبين.

 فكانوا بحق بهذا الطرح وهذا النظر أن يكونوا طرقية الجزائر الجدد، أو رهبان الجزائر.

من عنتر فرحات

كاتب وباحث في الشئون الإسلامية