لا أدري كيف يحصل ذلك.

لكن صدق الذين قالوا: إن السلطة مفسدة، إنها تتسلل إلى أعماق صاحبها، فتصيبه بها نشوة، يليها غياب وعماء عن الواقع فينتفخ، ويبطر ويطغى ثم تنسلخ النفس، تدريجيا، عن معناها وأريحيتها وفطريتها فتتعاظم الأنا، ويتشعب الطموح والاستغلاء ومن ثم يفقد صاحبها الإحساس بالأخر، ويتجاهل الآلام والمآسي والمواجع، وتضمحل داخله ظلال الرأفة والشفقة، وتتلاشى معاني الإنسانية، وينزل إلى دركات من القسوة والوحشية والصمم.

هذه العينة من البشر الممسوخ داخليا يقترن معه غالبا الفساد وتحطيم النماذج، والحرب على الفضل والمجد، وتربية المتملقين، وتقريب أشباهه من عبيد اللذات والبطون. ولعل ذلك ما يوحى إليه قوله تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين}.

لاحظ كيف قرن بين العلو والفساد، ولذلك ترى هذا الصنف في الخلق يتلذذ بإيلام ضحاياه، وتحطيم آمالهم، وكسر طموحهم، والقضاء على مستقبلهم، ويشتهي أن يراهم منكسرين منهزمين محبطين. وتبلغ الفاجعة ذروتها حين تقع قسوة هؤلاء على الأدباء والعلماء والمفكرين – الذين هم ضمائر الأمة، وشهودها، وطلائع ريادتها – الذين يمكن أن يفيدوا الأمة في نهضتها، وتستضئ برؤاهم، وترتقي بإبداعهم. تأملت التاريخ فوجدت فيه أمثلة من هذه الفظاعة، ارتكبها بعض الوزراء في حق بعض الأفذاد والفضلاء، فسجل التاريخ تلك الوصمة، وصار ذكرهم مقرونا مع اللعنة، وسيرتهم موشومة بالعار. كان أبو الفتح محمد بن عبيد الله ابن التعاويذي كاتبا وشاعرا مشهورا بل قال عنه ابن خلكان هو شاعر وقته لم يكن فيه مثله، وفعلا كان الرجل حسنة من حسنات عصره، وصاحب فلتات البيان، وروعة القول وقد مدح صلاح الدين الأيوبي بنونية رائعة رائقة، أولها:

إن كان دينك في الصبابة ديني فقف المطي برملتي يبرين

المهم أن هذا الفاضل كان له راتب في الديوان، أي أجرة على عمله فابتلي بالعمى في آخر عمره.

في هذه الأثناء تولى الوزارة أبو جعفر المعروف بابن البلدي فعزل أرباب الدواوين وحبسهم وحاسبهم، وصادر أموالهم.

وقطع أرزاقهم، فنال هذا الأذى شاعرنا الأعمى، وأصابته تلك القسوة البالغة فأرسل زفرات حرى تنبئ عما حاق به ولحقه، وقال شعرا يخلد فيه تلك الكارثة، ويحذر الناس من القدوم إلى بغداد وفيها مثل ذلك الوزير الظالم.

ويقول:

يــا قاصــدا بغداد حــد عن بــلـــــدة “” للجور فيــها لـــجـــة وعــبــاب

إن كنت طالب حاجة فارجع فـــــقد “” سدت على الراجي بها الأبواب

ليست وما بعد الزمان كـعــهــــدها “” أيام يعمر ربعها الطـــــــــــــلاب

ويحلها الرؤساء من ساداتــــــــها “” والجلة الأدباء والكـــــــــــــتاب

والفضل في سوق الكرام يباع بالــ “” ــغالي من الأثمــــــــان والآداب

بادت وأهلوها معا فبيوتــــــــــــهم “” ببقاء مولانا الوزير خـــــــــراب

إلى آخر القصيدة التي تكشف حسرة هذا الفاضل، بما ابتليت به بغداد من عدوان الوزير على فضلائها، وقطع أرزاقهم، وتحطيم مستقبلهم، وتعريضهم للمهانة والشماتة.

وفي القصيدة يذكر أن الوزير شرد الطلاب والأدباء والكتاب وهذا يعني أنه قرب الجهال والأغمار، والمتملقين لسيادته.

لا ريب أن هذا الحيف الأليم تأذى منه شاعرنا كثيرا، فقال بيتين وجيزين يتضمنان ألمه وشكواه يقول:

يا رب أشكوا إليك ضرا “” أنت على كشفه قدير

أليس صرنا إلى زمان “” فيه أبو جعفر وزير

ولعل الله استجاب لهذا الفاضل المظلوم، فقد ذكر إبن النجار في “تاريخ بغداد ”

أن الخليفة أخذ الوزير المذكور فقطع أنفه ويده ورجله، ثم ضربت رقبته، وألقي في دجلة “”. قصاصا منه على ظلمه وجوره وطغيانه، وتعديه على الأخيار.

أيها الفضلاء:

هذه قصة للاعتبار، ولكن أليس فيها ما يذكركم بما حصل للأئمة وأهل العلم في هذا الزمان الأغبر،

ألا نستطيع أن نقول مع المثل العربي ” ما أشبه الليلة بالبارحة ”.

بل ألا يكون بيت إبن التعاويذي مناسبا تماما لحالهم حين قال:

بادت وأهلوها معا فبيوتهم “” ببقاء مولانا الوزير خراب

رحمك الله يابن التعاويذي، وأنجاك إذ لم تكن في هذا العصر،

الذي صنع فيه أبو جعفر الوزير كثيرا من «آباء الجعافير» على مقاسه ومثاله وبثهم في كل إقليم،

وجعلهم أيادي التي يبطش بها، ينفذون خططه في قطع الأرزاق،

وتشريد الفضلاء، وسد منافذ العيش، وكسر العزة والأنفة لدى أهل الذكر.

حتى لو تحولت يابن التعاويذي عن بغداد لوجدته في الموصل، ولو هربت إلى غيرها لوجدته هناك ماثلا منتظرا. كأخطبوط متعدد الأطراف.

فهنيئا لك ياصاحبي أن نجوت بالموت، ولم تر يومهم الكريه. ونحن الآن نكرر معك.

يارب نشكوا إليك ضرا “” أنت على كشفه قدير.