كانت البدايةُ دعوةً أرسلَها إبراهيم الخليلُ عليه الصلاة والسلام ، مشفوعةً بالرحمةِ والإخلاصِ ، فما زالت تصعدُ حتى بلغَتْ مستقرَّها في الملكوتِ الأعلى، فتطاوَلَ الزمانُ وتعاقَبَتِ الأجيالُ ، وما زال جوابُ تلك الدعوةِ مخزونًا في طياتِ الغيبِ .
ثم وفي أعقابِ الدهر، جاء عيسى بن مريمَ، عليهما الصلاة والسلامُ ، نبيًّا مرسَلا ، ومبشرًا ومصدِّقًا ، وكان في بشائرهِ : ما يتحقَّقُ به إجابةُ الدعوةِ الآنفِ ذكرُها .
ثم تمادى الدهرُ ، وانقطَعتِ الرسالاتُ ، وكادت تندثرُ معالمُ النبواتِ ، وذهبتِ الجاهليةُ بالناسِ كلَّ مذهبٍ ، حتى خرجَ عبدُ المطلب بن هاشم يوما من الدهرِ ، ومعه ابنُه عبد الله ، فخطبَ الأبُ هالة بنت أهيب ، وكانت آمنةُ بنتُ وهبٍ حظَّ عبد الله من النساءِ ، فلم تنكِحْ رجلًا سواهُ ولم يتزوجْ قبلَها امرأةً ، وذاك لأمرٍ يُرادُ وقوعُه ، ويا له من أمرٍ !
فحمِلَتْ آمنةُ حملًا خفيفا ، وكان بها رحمةً وهو في بطنها ، ورأتْ وهي حاملٌ به رؤيا فيها بشارةٌ عظيمةٌ ، ثم لما ولدَتْه ، لم تجِدْ لِولادتِه ما تجدُ النساءُ من الألم ، فتلكَ رحمةٌ أخرى . وبعد مدةٍ يسيرة جاءتِ مراضعُ بني سعدٍ يلتمسنَ الرُّضَّعَ ، فلم تجدْ حليمةُ سوى هذا الصبيِّ في مهده ، الذي لا عائلَ له غيرُ أمه ، فكادت تتردَّدُ عن أخذِه ، لولا شجَّعَها زوجُها ، فانطلقتْ بهِ فإذا الرحماتُ تنهمرُ والبركاتُ تصحبهُما طَوال دربِهما ، وفي سنِيِّ لبْثِه عندهما ، غلامًا مباركًا نقيًّا ، حتى أنه كان يؤْثِر أخاهُ من الرضاعة بجانبٍ من ظئرِهما ، لا ينازعُه فيه ، فكان مفطورًا على الرحمةِ .
وكان يشبُّ لا كما يشبُّ الغلمانُ ، شبابًا باهرًا عجيبًا ، وقد ذُكِر أن مكةَ أجدبَتْ في بعض الزمانِ ، فرأتْ رقيقةُ بنت أبي صيفي بن هاشم رؤيا ، فكان تأويلُها أن يخرج عبدُ المطلب بالناس إلى الكعبة ، فخرجَ واصطحبَ معَهُ صغيرَه محمدًا ، وتوسَّلَ به إلى ربِّ البرايا ، ففُتِحَتْ أبوابُ السماءُ بماءٍ مدرارٍ ، وغاثَ الناسُ ما شاؤوا !
وما زالَ محمَّدٌ لا يزدادُ إلا خيرًا وعقلًا وخُلُقًا ، وتسمو بهِ نفسُه عن أضغانِ الجاهليةِ ، حتى جاءَهُ الوحْيُ وهو في غارِ حراءَ ، فخشيَ على نفسِهِ بادئ الأمرِ ، ثم انطلقَ داعيًا إلى الرحمةِ التي أمرَه اللهُ أن يبلِّغَها إلى الناس ، فقَبِلَتْها قلوبٌ اختصَّها اللهُ بكرامتِه ، ورفضَها طوائفُ ممن قسَتْ قلوبُهم وأعرضوا عما يراد بهم من الرحمةِ .
” فإني نذيرٌ لكم بين يدَيْ عذابٍ شديدٍ ” ، نذارةٌ ملؤها الرحمةُ والشفقةُ ، لاقتْ آذانًا صُمًّا وقلوبًا عُمْيا ، فانطلقَ عليه الصلاة والسلام لا يلوي على شيء ، داعيًا إلى اللهِ ، لا يعبأُ بمن عاداهُ ولا يردُّهُ عن دعوتِه مساءةُ مُسيءٍ أو ملامُ عاذلٍ ، وكان يضيقُ صدرُه بهؤلاء الذين لم يستجيبوا إليه ، رحمةً بهم من عقابِ اللهِ الأليمِ ، فيخفِّفُ اللهُ عنه ببعضِ الوحيِ وبمؤازرةِ أصحابه وزوجِهِ المباركةِ .
فتضايقَتِ الأمورُ واشتدَّ الكربُ ، فأذنَ لأصحابِه بالخروجِ إلى أرضٍ يمارسونَ فيها شعائرَ دينِهم ، ثم ازدادَ الدهرُ عنتًا وكبَدًا حتى خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائفِ ، يلتمسُ مَن يقبلُ تلك الرحمةَ ، فكانوا غلاظًا أجلافا ، فخرجَ يناشدُ ربَّه مناشدةً مفعمةً بالضراعةِ والإخباتِ والمسكنَة ، وكان يدورُ على الحجيجِ في منازلِهم يدعوهم إلى كلمةٍ ينالون بها الفلاحَ في الدنيا والآخرةِ ، فلم يلْقَ لدعوتِه صدًى ، حتى جاء الرهطُ المباركون من الأنصارِ ، فأسلموا ثم عادوا إلى بلادهم ، فتكاثر الإسلام في الأنصارِ ، فإذا همْ قومٌ رحماءُ بررةٌ ، بعد أن تفانَوْا في حروبٍ داميةٍ طويلةِ المدة !
ثم أذن اللهُ لصفِيِّه بالهجرةِ ، فكانت حدثًا هائلًا ، فأولُ صنائعهِ عُقَيْبَ وصولِه إلى طيْبَة أن بنى مسجدًا ، فكان رحمةً للمسلمين الذي لاقَوْا في دينِهم وصلاتِهم أشدَّ العذابِ ، ثم عقَدَ الأواصرَ بين المهاجرينَ والأنصارِ فكانت بينهم مودةٌ ورحمةٌ أعظمُ مما يكون بين ذوي القُربى ، ثم وقعتْ أمورٌ يطولُ مقامُ سردِها ، من غزواتٍ وسرايا ، وحوادثَ ومآسٍ ، وأفراحٌ ومسرَّاتٌ ، فكان شعارُ ذلكَ كلُّهُ وغيرُه أيضًا : الرحمةُ .
ميلادُ النبيِّ صلى الله عليه وسلمَ رحمةٌ ، وبعثتُه رحمةٌ ، وهجرتُه رحمةٌ ، وجهادُهُ في سبيلِ اللهِ رحمةٌ ، ومجالسُه مع أصحابِهِ رحمةٌ ، وحياتُه مع نسائهِ رحمةٌ ، وتعامُلُه مع الصبيانِ والجواري رحمةٌ ، وأحاديثُه وسنَّتُه رحمةٌ ، فكيفما قلَّبْتَ أخبارَه وجدْتَ الرحمةَ شعارَهُ ودثارَه .
يدعو إلى الرحمة في أحاديثَ شتَّى ، ويزري على رجلٍ أنه لا يُقَبِّلُ صبيانَه ، ويئنُّ إليه الجملُ فيرحمُه ، وتشكو إليه الحُمَّرَةُ ، ويعاتبُ أصحابَه في قرية نملٍ أحرقوها ، ويقفُ بجيْشِه رحمةً بامرأةٍ من نسائه ضاعَ منها عقدٌ ، وتأخذُ جاريةٌ بيدِه فيذهبُ معها ، ويداعبُ طفلًا مواساةً له في طائرٍ مات ، ولا يعنِّفُ خدَمَهُ ولا يلومهم ، ويحثُّ على الرحمةِ بالخدمِ والضعفاءِ ، والحيواناتِ وغيرها ، بل يحنُّ إليه جذعُ نخلةٍ فيرحمُه ويعانقُه .
يوجزُ في صلاتِه رحمةً بامرأةٍ بكى صبيُّها ، ويطيلُ السجودَ رحمةٍ بطفلةٍ ارتقتْ فوقَ ظهرهِ ، وينزلُ عن منبره ليحملَ ابنيْهِ الشريفيْنِ ، ويُدْرِك ابنَهُ وهو يُحتضَر فيبكي رحمةً به ، ويموتُ أصحابُه فيبكي بكاءً مريرًا ، وكم دعا ربَّهُ في المواقفِ مستغيثًا رحمةً بأمتِه ، فيُمطَرُون ويَطعمون ، ويستقونَ ويركبون ، وتحفُّهم البركةُ في أحوالِهم المختلفة .
وحين فَتح اللهُ عليه مكةَ ، تناسى ما فعلَهُ به قومُه في سنينَ خلتْ ، وعفا عنهم عفوًا من أعظمِ العفو وأخلدِهِ في الدهر ، ويومَ حنينٍ رد على الكفارِ ما غنمَ منهم جميعَه ، وكان يعطي عطاء مَن لا يخشى الفقرَ ، ومِن أجلى صوَرِ رحمتِه : دعاؤه لأمتهِ في غير موقفٍ ، وادِّخارُه دعوةً أُعْطِيَها شفاعةً لأهلِ الكبائر من أمته ، وخطبتًه في الحج اشتملَتْ على صورٍ من الرحمةِ ، لو ذهبَ أهلُ الأرضِ ومثلُهم معهم يصوغونَ معشارَ ما فيها من الرحمةِ لم يقدروا ، بل تمتدُّ رحمتُه إلى موقفِ الحشرِ ، فيفَرِّجُ اللهُ بها عن الناسِ ما يحمدُه عليه الأولونَ والآخرون !
ومعالمُ الرحمةِ في سيرتِه وحياتِه أجلُّ مِن أن تُستقصى وأكثرُ من أن تُحصى ، ولقد ذهبَ بِشرفِ الدنيا والآخرةِ بقول الحقِّ تعالى شأنُه فيه : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم ) ، وقوله عز وجل : ( وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين ) .
فاللهم صل وسلم وبارك على نبي الرحمةِ والهدى ، واجعلنا من أتباعه واحشرنا في زمرته .

من د. أنس الرهوان

طبيب، كاتب وباحث