إبراهيم أبو عواد

1

اكتشافُ المعنى الوجودي في العلاقات الاجتماعية يحتاج إلى تكوين آلِيَّات لُغوية لتحليلِ بنية التاريخ، ونَقْلِها مِن الإطار الزمني التجريدي إلى المنهج المعرفي التوليدي، لأنَّ الزمن لَيس مَقصودًا لذاته،

بَلْ هو جِسْر نَحْو الحقائقِ الشُّعورية، والتفاعلاتِ الرمزية، والثقافةِ الواعية، ومصادرِ المعرفة.

والزمنُ -كَجَوْهَرٍ فِكري وجِسْرٍ حياتي- هو التَّجَلِّي الحقيقي لعلاقة الإنسانِ بِنَفْسِه العميقة، والانعكاسُ المنطقي لعناصر المكان التي تتجدَّد في صَيرورة التاريخ، لِتصبح زمنًا داخلَ الزمن.

وهذا التداخلُ ضروري لِجَعْلِ المعنى الوجودي حاضرًا في كِيَانِ الإنسان، وكَينونة المُجتمعِ، وجسدِ التاريخِ، وروحِ الحضارة.

وإذا كانت العلاقاتُ الاجتماعيةُ هي الحاجزَ الفلسفي بين الذاكرةِ الإبداعيةِ والتجربةِ الواقعيةِ، فإنَّ الآلِيَّات اللغوية هي الوَعْي المركزي الذي يَستعيد الإنسانَ مِن مَتاهة الغِيَاب، ويَمْنَع فَصْلَ هوِيَّةِ المجتمع عن ماهيَّة الثقافة.

وغِيَابُ الإنسانِ تَغييبٌ لمفهوم الحُرِّية عن الذات والموضوع، لأنَّ الإنسانَ كلٌّ لا يَتَجَزَّأ،

وحياةُ الإنسانِ لا تَنفصل عن مفهوم الحُرِّية وقيمةِ التَّحَرُّر، ومصادرُ المعرفة لا تَنفصل عن شروطها الواقعية وخصائصها الوجودية، وإذا ثَبَتَ الشيءُ ثَبَتَتْ لوازمُه.

2

المعنى الوجوديُّ -فلسفيًّا واجتماعيًّا- هو الطريقُ إلى تأسيس منهج نَقْدِي فَعَّال في حقول المعرفة،

وهذا مِن شأنه عِلاجُ إشكاليَّةِ غربة الإنسانِ في منظومة المجتمع الاستهلاكية، وحَلُّ مشكلة التناقض بين الأحلامِ الفردية والطُّموحاتِ الجماعية، وَسّدُّ الفَجْوَةِ بين واقعيةِ الفِكْر ورمزيةِ اللغة.

وإذا صارت حقُولُ المعرفةِ أحداثًا يومية معَاشة يتمُّ التفاعل معها والانفعال بها،

فإنَّ فلسفةً عميقةً سَتَظهر في العلاقات الاجتماعية، بِوَصْفِهَا شَبَكَةً لامتناهية مِن الدَّلالات النظرية والممَارَسَات العملية.

وشرعيةُ الفلسفةِ مستمدة مِن تفاصيل الواقع اليومي، ولَيس مِن تقليد الفلسفات الأُخْرَى،

وهذا يدل على أهمية نقل المَعنى الوجودي مِن المُحَاوَلات التأويلية إلى المنهج النَّقْدي،

ومِن المنهج النَّقْدِي إلى الرُّؤية الشّمولية القادرة على تحويل المنظورِ الذهني إلى نظرية واقعية،

والماهيَّةِ الثقافية إلى هوِيَّة وجودية، والكَينونةِ الحياتية إلى سلطة معرفية، والبناءِ اللغوي إلى بنية وظيفية.

3

المعنى الوجودي مرتبط بالأنظمةِ الاجتماعية والظواهرِ الثقافية، وهذا الارتباطُ يقَدِّم تفسيرات منطقية لرمزية اللغة في الروابط بين عواملِ تَكوين أنسجة المجتمع وشروطِ تكريس مصادر المعرفة.

والمجتمعُ كَينونةٌ وجودية، والمعرفةُ سلطةٌ نَقْدِيَّة، والتلاحمُ بين المجتمعِ والمعرفةِ يولِّد نسقًا زمنيًّا عابرًا لحدود المكان،

وقادرًا على تحويلِ دَور الفلسفة مِن رمزية اللغة إلى التفاعلات الرمزية في العلاقات الاجتماعية،

مِمَّا يسَاهِم في إنشاء قاعدة أخلاقية يقوم عليها الفِعْلُ الاجتماعي باعتباره القوَّةَ الضاربة للعقل الجَمْعي،

وأيضًا، تحويل وظيفة التّرَاثِ مِن الفاعلية التاريخية إلى الفاعلية الحضارية،

مِمَّا يؤَدِّي إلى صناعة الوَعْي الذي يوازِن بين المِعْيَارِ الأخلاقي وشخصيةِ الفرد الإنسانية،

ويَمنع تَحَوُّلَ الإنسانيةِ إلى شَيْءٍ زائد عن الحَاجَة، أوْ سِلْعَةٍ في منظومة العَرْض والطَّلَب.

وكلَّمَا تَكَرَّسَ التَّمَاهي بين العَقْلِ الجَمْعي والآلِيَّاتِ اللغوية الناقدة له، انتشرتْ إفرازاتُ الذاكرةِ الإبداعية في الوَعْي التاريخي والحضاري،

كإطارٍ جامع لفلسفةِ الماضي المنعكِسة على سِيَاقات الواقع الراهن.

وتأويلُ الوَعْيِ التاريخي والحضاري لغويًّا واجتماعيًّا وفلسفيًّا في غاية الأهمية،

لأنَّه الضَّمَانة الأكيدة لمنعِ تَحَوُّلِ الشُّعورِ الإنساني إلى أداة ميكانيكية، ومَنْعِ تَحَوُّلِ الإنسانِ إلى آلَةٍ، ومَنْعِ هَيمنة الآلَةِ على الإنسانِ والطبيعة.

4

المعنى الوجودي لَيْسَ شكلًا ثابتًا أوْ بنيةً متَحَجِّرَةً، وإنَّما هو جَسَدٌ سائلٌ يحتاج إلى تجسيد في المنهج النَّقْدِي والعقلِ الجَمْعي،

لحمايةِ العلاقاتِ الاجتماعية مِن التَّحَوُّل إلى أوهام تائهة بين الهوِيَّة والماهيَّة.

ومعَ أنَّ الهوِيَّة والماهيَّة مَحكومتان بِسِيَاقٍ تاريخي ونسقٍ حضاري، إلا أنَّهما حاكمتان على الوسائلِ والغايات،

وهذا يَعْني أنَّ لهما تأثيرًا كبيرًا في المَضمونِ الإنساني للظواهر الثقافية، وطريقةِ تكوين المعايير الأخلاقية في البناء الاجتماعي،

مِمَّا يؤَسِّس حالةَ توازن ديناميكي بين النسقِ الفِكري (الحقيقة والمنهج)، والنسقِ الواقعي (النظرية والممَارَسَة)، والنسقِ الاجتماعي (المعرفة والمصلحة)، والنسقِ الثقافي (الذات والموضوع)،

مِمَّا ينَقِّي الوقائعَ التاريخية مِن الوَعْي الزائف، ويطهِّر التّراثَ مِن التأويل المَصْلَحِي المغْرِض.

وإذا كانت الهوِيَّةُ لا تَنفصل عن التّرَاث الرُّوحي والمادي، فإنَّ الماهيَّة لا تنفصل عن الرمزية اللغوية والاجتماعية،

وهذا يَعْني استحالةَ اختزال الوجود الإنساني في المسلَّماتِ الافتراضية، والأحكامِ المسْبَقَة، والقوالبِ الجاهزة.

فالوجودُ الإنساني نهرٌ دائمُ الجَرَيان، ولَيس كتلةً أسمنتية محصورة في الأُطُرِ الزمنية والحدودِ المكانية. وكلُّ وجودٍ يَشُقُّ مَعْنَاه، كما يَشُقُّ النهرُ مَجْرَاه.

وهذا يولِّد نقدًا مستمرًّا للتاريخِ، ويَمنعه مِن التَّحَوُّلِ إلى أسْطُورَةٍ متعالية،

كما يولِّد نقدًا مستمرًّا للحضارة، ويَمنعها مِن التَّحَوُّل إلى أيقونة مقدَّسة.

من إبراهيم أبو عواد

كاتب من الأردن