لعل من أهمِّ أدوات المؤرخ النَّابه امتلاكه ناصية اللغة، فيوظف كلماتِها بما يخدم مقاصده، متجنباً في الوقت نفسه الألفاظ المسجوعة التي زخرت بها كتب العماد الكاتب والقاضي الفاضل، وفي “الصحيحين” من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “بُعثتُ بجوامع الكَلِم”[1].

فمن البلاغة أن يُعبِّر المرء بألفاظ قليلة عن معانٍ كثيرة من دون حشوٍ، وخيرُ مَن استعمل اللغةَ بحُنْكَةٍ وذكاء، بعد النبي صلى الله عليه وسلم[2]، المؤرخُ الواعظ أبو الفرج عبد الرحمن ابن الجَوْزِيّ (510-597هـ = 1116-1201م)، صاحب الكتاب المشهور “المنتظَم في تاريخ الملوك والأمم” و”صيد الخاطر”، فقد مدحه شمس الدين الذهبي قائلاً: “وكان رأساً في التذكير بلا مُدافعةٍ، يقول النَّظم الرائق، والنثر الفائق بديهاً، ويُسهِب، ويُعجِب، ويُطرِب، ويُطنِب، لم يأتِ قبله ولا بعده مثلُه، فهو حاملُ لواء الوعظ، والقيِّم بفنونه”[3]؛ فهو – إذاً – يجيد استخدام “السحر الحلال” باقتدارٍ.

أَحبَّ الوعظ وهو في سنِّ المراهقة، وجرت له في مجالس وعظه عند باب بدر (أو البدرية) تحت قصر الخلافة ببغداد، من الطُّرف المبتكرات، لخص فيها المعاني الكثيرة بأوجز الكلمات، وهو ما يُسمَّى “السَّجْع الوعظي”، فقد كان له فيه مَلَكة قوية، فحقُّ هذه الطُّرف أن تُكتب بماء الذهب، فمما قاله يوماً في مجلس وعظه: “الدنيا نهر طالوت، فاعبروها ولا تعمُّروها”، فسأله أحد الحاضرين: كيف أصنع وحبّها مجبولٌ في طباعي من يوم ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ ﴾ [آل عمران: 14]، فأجابه ابن الجوزي: “(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ) قطرةً من القطرات”[4].

وقرأ بين يديه قارئ حسن الصوت، فأطرب المجلس، ثم قرأ بعده آخر مزعج الصوت، فنفَّرهم، فعلّق ابن الجوزي على ذلك ساخراً بقوله: “كان لبعضهم جاريتان مغنيتان، إحداهما تغني طيباً، والأخرى مزعجاً، فكان إذا غنَّت الطيبة الصوت يمزِّق ثيابه، وإذا غنَّت القبيحة الصوت يقعد يخيط ما مزَّق”[5].

وقِيَل له: إنَّ فلان أوصى عند الموت، فقال: “طَيَّن سطوحَه في كانون”[6]، أي في فصل الشتاء.

وسُئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم في “صحيح مسلم”: “أنا سيد ولد آدم”، وقوله في “الصحيحين”: “لا تفضلوني على يونس بن متَّى”، وكأن السائل فهم من ذلك التناقضَ، فأجابه ابن الجوزي قائلاً: “هذا خالُ جمالٍ على خد كمال”[7]؛ والخال تعني الشامة.

وقال في قول فرعونَ ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ [الزخرف: 51]: “يفتخر بنهرٍ ما أَجْرَاهُ، ما أَجْرَأَهُ”[8].

ومما قاله في قصة الذين عبدوا العِجْل من بَني إسرائيلَ: “لو أن الله خَار لهم (أي اختار)، ما خَارَ لهم (أي أحدث صوت الخُوَار)، عبدوا العِجْل من غير فكرةٍ، بل على الفور، وما يعبد العجلَ إلا ثورٌ”[9].

وقد مدح رجلاً بالكرم، فقال: “نُبل فضلِه يرمي عن قوس جوده؛ فقد صار الفقرُ في زمانه كالقنفذ”[10].

وسأله رجل: لِمَ لا جعل الطلاق للنساء كما جعل للرجال؟ فقال: “لو كان كذلك، وتعوَّق الخبزَ ساعةً، وقع الثلاثُ”[11].

وكان يتحدث يوماً في مجلسه عن أحوال الصالحين، فسأله أحد الحضور سؤالاً خارج سياق حديثه، فقال: “لا تذكرْ لمَنْ في طريق الحجِّ إلا طريق مِنَى”[12].

كما سُئل في مجلسٍ آخر: لِمَ لَمْ ينصَّ النبي صلى الله عليه وسلم على خلافة أبي بكرٍ رضوان الله عليه؟ فقال: “قد جَرَتْ أشياء تجري مجري النصّ، منها قوله: “مروا أبا بكرٍ فَلْيُصَلِّ بالناس” (في الصحيحين)، و”اقتدوا باللذين مِنْ بعدي” (في مسند أحمد، والترمذي، وابن ماجة)، و”هلموا أَكتبْ لأبي بكرٍ كتاباً؛ لئلا يختلف عليه المسلمون” (في مسند أحمد، وابن ماجة)، فهذه أحاديث تجري مجرى النصوص، فهمها الخُصوص…”[13].

وقال: “قال جبريل عليه السلام للرسول صلى الله عليه وسلم: سَلِّمْ على عائشة (صحيح البخاري)، فلم يواجهها بالخطاب؛ احتراماً لزوجها، وواجه مريمَ؛ لأنه ما كان لها زوجٌ، فمَنْ يحترمها جبريل، كيف يجوز في حقِّها الأباطيل؟!”[14].

وفي إحدى مجالس وعظه قام إليه رجلٌ فقال: يا سيدي نشتهي منك تتكلَّم بكلمةٍ ننقلها عنك، أيما أفضل: أبو بكر أو علي؟ فقال له: اقعُدْ. فقعد، ثم قام وأعاد سؤاله، فأجلسه، ثم قام ثالثةً، فقال له ابن الجوزي: “اجلس؛ فأنت أَفْضَلُ (من الفضول) من كلِّ أحدٍ”[15].

هذا نزرٌ يسير من أقوال ابن الجوزي النفيسة، علق بذاكرتي منه كما يعلق بمنقار الطائر من ماء البحر، فمَن أراد الوقوف على أكثرها، فليراجع كتاب “مرآة الزمان” لسبط ابن الجوزي، و”المذيل على الروضتين” لأبي شامة المقدسي.

مجمع اللغة العربية – مكة
_____

[1] أخرجه البخاري (2977)، ومسلم (523).

[2] لله دَرُّ أحمد شوقي القائل:

فما عرفَ الْبلاغةَ ذو بيانٍ *** إذا لمْ يتَّخذكَ له كِتابا

[3] انظر: سِير أعلام النبلاء، طبعة مؤسسة الرسالة، المجلد (21)، الترجمة (192)، ص367.

[4] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، طبعة دار الرسالة العالمية، جـ(22) بتحقيق إبراهيم الزيبق، ص100.

[5] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص101.

[6] أبو شامة المقدسي، المذيل على الروضتين، تحقيق إبراهيم الزيبق، طبعة دار البشائر الإسلامية، جـ(1)، ص102.

[7] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص103.

[8] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص104؛ أبو شامة، المذيل على الروضتين، جـ(1)، ص103.

[9] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص105؛ أبو شامة، المذيل على الروضتين، جـ(1)، ص103.

[10] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص105.

[11] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص106.

[12] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص108.

[13] سبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص109؛ أبو شامة، المذيل على الروضتين، جـ(1)، ص104.

[14] سِبط ابن الجوزي، مرآة الزمان، جـ(22)، ص110؛ أبو شامة، المذيل على الروضتين، جـ(1)، ص105.

[15] الذهبي، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، طبعة دار الغرب الإسلامي، مج(12)، ص1105.