وأمّا ثناء العلماء جيلا بعد جيل على الإمام البخاري، فلا سبيل إلى حصره في كتاب واحد، ونكتفي بعرض بعض ما قالوه عنه. فقد قال أحد شيوخه -محمد بن سلام-: “كلما دخل علي هذا الصبي -البخاري- تحيّرت، والتبس عليّ أمر الحديث وغيره. ولا أزال خائفا ما لم يخرج”و هذا دليل على عبقرية التلميذ،و رسوخه فى العلم،إلى درجة أن أستاذه يخشى أن يقع منه خطأ في حضوره..

وذكر عمر سليم بن مجاهد أنه كان عند محمد بن سلام، فقال له -بعد انصراف البخاري-: لو جئت قبل ذلك لرأيت صبيًا يحفظ سبعين ألف حديث، فخرجت في طلبه حتى لحقته، وسألته: أنت الذي يقول: إني أحفظ سبعين ألف حديث؟ فأجاب البخاري:”نعم، وأكثر. ولا أحدّثك بحديث من الصحابة والتابعين إلا عرّفتك مولد أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولست أروي حديثًا من حديث الصحابة أو التابعين إلا ولي من ذلك أصل أحفظه حفظًا عن كتاب الله، وسنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم”.

وقال أبو إسحاق السرماري: من أراد أن ينظر إلى فقيه بحقه وصدقه، فلينظر إلى محمد بن إسماعيل  “البخاري”، وقال يحيى بن جعفر: لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل-البخاري- من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم.

وسُئل قتيبة عن طلاق السكران، فقال للسائل: هذا أحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه قد ساقهم الله إليك، وأشار إلى البخاري، وكان مذهبه أنه إذا كان السكران مغلوب العقل حتى لا يذكر ما يحدث في سكره، فأنه لا يجوز عليه من أمره شيء.

وكان أهل المعرفة بنيسابور يرون أن البخاري أفقه من أستاذه إسحاق بن راهويه.. وقال عبدان: ما رأيت بعيني شابًا أبصر من هذا، وأشار بيده إلى محمد بن إسماعيل البخاري.. وقال نعيم بن حماد أحد فحول العلماء: محمد بن إسماعيل فقيه هذه الأمة.. وقال مُسدد: “يا أهل خراسان، لا تختاروا على محمد بن إسماعيل أحدًا”.

ولثقة الشيخ عبد الله بن يوسف في تبحّر تلميذه البخاري، طلب منه مراجعة كتبه، وأن يُخبره بما فيها من سهو أو خطأ، ففعل رضي الله عنهم. وعلم على بن المدينى -المُحدّث الكبير- بمقولة البخاري: “ما استصغرت نفسي إلا بين يدي علي بن المديني” فقال علي لمن حوله: “دعوا هذا، فإن محمد بن إسماعيل -البخاري- لم ير مثل نفسه” أي لا نظير له. وكما نرى فإن كلاهما قد تواضع لصاحبه، وهذا شأن العلماء العاملين، فإنهم أكثر الناس أدبًا وتواضعًا.

وبلغ من تقدير عمرو بن علي الفلاس للبخاري أنه قال: “حديث لا يعرفه محمد بن إسماعيل ليس بحديث”

وقال أبو مصعب الزهري: “محمد بن إسماعيل البخاري أفقه عندنا وأبصر -بالحديث- من أحمد بن حنبل، فقيل له: جاوزت الحد، فقال للرجل: لو أدركت مالكًا، ونظرت إلى وجهه ووجه محمد بن إسماعيل، لقلت: كلاهما واحد في الفقه والحديث.

بل قال عنه أستاذه إسحاق بن راهويه: “اكتبوا عن هذا الشاب -يعني البخاري- فلو كان في زمن الحسن -البصري- لاحتاج إليه الناس لمعرفته بالحديث وفقهه” .

وقال علي بن حجر: “أخرجت خراسان ثلاثة: أبو زرعة، ومحمد بن إسماعيل،وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ومحمد -البخاري- عندي أبصرهم وأعلمهم وأفقههم” ولا أعلم مثله.

وكذلك قال أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير: “ما رأينا مثل محمد بن إسماعيل البخاري”.

وتكفى شهادة الإمام العظيم أحمد بن حنبل للبخاري، فقد روى ابنه عنه أنه قال: “ما أخرجت خراسان مثل محمد بن إسماعيل. وقال الإمام أحمد أيضا: “انتهى الحفظ إلى أربعة من أهل خراسان -بآسيا الوسطى- أبو زرعة الرازي، و محمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي”الدارمى”والحسن بن شجاع البلخي”

وكذلك شهد له الإمام بندار بن بشار بقوله:”ما قدم علينا مثل محمد بن إسماعيل، سيد الفقهاء”. وقال مرجى بن رجاء:”البخاري آية من آيات الله تمشي على الأرض”.

وأثنى أبو عمار الحسين بن حريث على البخاري قائلًا:”لا أعلم أني رأيت مثله، كأنه لم يُخْلَق إلا للحديث”.

وحكى أبو سهل الشافعي أنه دخل البصرة والشام والحجاز والكوفة، ورأى علماءها، وسمعهم، كلما جرى ذكر محمد بن إسماعيل فَضّلُوه على أنفسهم”..

وشهد قتيبة بن سعيد أن:”شباب خراسان أربعة، محمد بن إسماعيل، وعبد الله بن عبد الرحمن -الدارمي- وزكريا بن يحيى اللؤلؤي، والحسن بن شجاع”.

وقال الإمام يعقوب بن إبراهيم الدورقي: “محمد بن إسماعيل البخاري فقيه هذه الأمة”.

وقال أبو جعفر المسندي: حفاظ زماننا ثلاثة، محمد بن إسماعيل البخاري، وحاشد بن إسماعيل، ويحيى بن سهل.

ووصفه الإمام الذهبي بقوله: “هو الإمام الحُجّة العلم الناقد المجتهد شيخ الإسلام قدوة الحفّاظ أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، المُصنِّف للصحيح (الجامع المسند الصحيح المختصر من أُمور رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسننه وأيامه) والتاريخ الكبير وكتاب الأدب المفرد وغير ذلك من التّواليف المهذّبة التي لم يُسبق إليها.. وأما الصحيح، فهو أعلى ما وقع لنا من الكتب الستة في أول ما سمعت الحديث، و(لو رَحَلَ الرجلُ من مسيرة سنة لسماعِهِ لما فرّط) وهو أعلى الكتب الستة سنداً إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، في شيء كثير من الأحاديث، وذلك لأن أبا عبد الله أسنُّ الجماعة، وأقدمهم لقيا للكبار -قدامى المُحدّثين- وأخذ عن جماعةٍ، يروي الأئمة الخمسة عنهم، وجزاهُ الله عن الإسلام خيرا, نِعْمَ ما ادَّخر لمَعادِه”. انتهى.

ووصفه الإمام ابن كثير قائلا: “الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الصحيح يستقى بقراءته الغمام، وأجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه، وكذلك سائر أهل الإسلام” و”قد كان البخاري رحمه الله في غاية الحياء، والشجاعة والسخاء، والورع والزهد في الدنيا دار الفناء، والرغبة في الآخرة دار البقاء”. انتهى..