هل تقدم الأمة على ما يفعله المزارع الذي يتعهد أشجاره بالتقليم حتى تستعيد عنفوانها الحيوي فتصبح أكثر إثمارا بعد أن مرت لمدة طويلة بما كاد يطمس فاعليتها أقوالا لا تتبعها أفعال في المعاملات بين  البشر التي هي جوهر الشريعة من حيث هي تنظيم شروط العدل في التبادل والصدق في التواصل؟

فلا يمكن أن يكون ما حصل للأمة من انحطاط محض صدفة فيكون ما في القرآن من وعد بعزة الإسلام وبدور المسلمين بما عرفت به شاهدة على العالمين في حين أن شعوبها فقدت شرطي الشهادة المعتبرة:العدل في التبادل والصدق في التواصل بحيث لم يبق من شريعة الإسلام إلا القشور المشعرية دون الثمرة الخلقية.

فتنتان تحاصران الأمة الإسلامية!

وما كنت لأسأل هذا السؤال لو كان الأمر مقصورا على ما يمكن أن يفكر فيه الأفراد من رؤى إصلاحية لأني لا اسأل عما يسمى مصلح القرن بالمعنى التقليدي لأن الوضعية بلغت حدا لم يعد فيه أي قابلية لاعتماد الإصلاح الفردي إذا لم تعتمد على ما هو أعمق من ذلك بكثير  يحرر الأمة من فتنتين تحاصرانها.

والفتنة الأولى معلومة للجميع وهي التي نسميها الفتنة الكبرى. والثانية يمكن أن نصطلح عليها بالفتنة الصغرى. وبينهما وجه شبه لكن وصف الأولى بالكبرى والثانية بالصغرى علته الفرق بين أصل الفتنتين:

فالأولى كبرى لأنها اعتمدت غدر التقية

والثانية التي هي العلمنة الاستعمارية: الوحشية الخارجية

فالفتنة الكبرى

هي إستراتيجية تعتمد منطق الحرب الصينية عند سن تسو وهي التخريب الباطن من الداخل انتقاما لهزيمة نظام الأكاسرة الفارسي.

والفتنة الصغرى

هي إستراتيجية تعتمد منطق الأوروبية عند كلاوسفيتس أي التهديم النسقي لمعالم الوجود والحضارة الإسلامية الذي بدأ منذ حروب الاسترداد.

ومن يغفل عن التحالف الدائم بين أصحاب الفتنتين والإستراتيجيتين لا يمكن أن يفهم حرص الغرب والشرق كليهما على حماية إيران وإسرائيل ومنع كل إمكانية لأي دولة سنية أن تصبح قادرة على رعاية شعبها وحمايته بتفتيت الجغرافيا وتشتيت التاريخ الذي كلفت به عملاءها حكاما ونخبا لمنع قدرة الاستئناف

جعل استئناف دور الأمة الإسلامية -يعني السنة بكل تلوناتها- لا يمكن أن يكون فعل فرد مهما بلغ من العلم بمنطق مجدد القرن: فالأمر ليس تجديد قرن بل إحياء قرون أضاعت فيها الأمة جذوة وجودها  «ففسدت معاني الإنسانية» فصارت أخلاقها أخلاق عبيد بدل «الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلقت له»

فساد معاني الإنسانية؛

ليست من وضعي بل هي مفهوم وضعه ابن خلدون والرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف كذلك من وضعه: الأول في الفصل 40 من باب المقدمة 6 والثاني في الفصل 24 من باب المقدمة 2.

 لذلك فهو أول من بحث في إحياء الجذوة فحدد طبيعة المشكل وشروط الإصلاح المطلوب المتجاوز لمجدد للقرن.

وهو ما يعني أنه شخص الداء في الأعماق التي تمثل ركني أخلاق رئاسة الإنسان الطبيعية بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له  أي التربية والحكم المتخلصين من العنف: وضرب مثال المرحلة المكية لتربية غير عنيفة والمرحلة المكية لحكم غير عنيف: كلاهما يحافظ على ما سماه «الباس» وعلل ذلك بالوازع الذاتي.

فماذا يعني بالوازع الذاتي؟

يعرفه بأنه غير الوازع الأجنبي: ولما كان الوازع الأجنبي يعني الأحكام السلطانية الذي هو عنف خارجي فإن الوازع الذاتي الضمير الذي هو لطف نابع من باطن الذات وليس من خارجها: وبين أن ذلك هو ما اعتمدت عليه التربية والحكم في صدر الإسلام قبل الفتنة الكبرى التي أنهته

وكلنا لا ينكر أن الفتنة الصغرى ضاعفته:

فعنف التربية وعنف الحكم لم يعد صادرا على المربي والحاكم المسلمين وحدهم بل من يسيطر عليهم من القوى العنيفة التي صارت هي التي تحكم وتربي أي الحاميات العسكرية وغالبها مرتزقة إلى يوم الناس هذا.

وليتها كانت من أبناء البلد فحسب بل إن هؤلاء الذين هم من أبناء البلد ليسوا ممثلين لإرادة أهل البلد بل لإرادة من يحكم في من يحكمهم: فتفتيت دار الإسلام الجغرافي وتشتيت حضارتها التاريخية ارجع إليها كل علل الاستضعاف أمام الإستراتيجيتين التخريب من الداخل والتهديم من الخارج: فانحططنا!

من د. أبو يعرب المرزوقي

فيلسوف عربي تونسي