الرسالة الإسلامية رسالة الرحمة للعالمين، فهي أكبر من أن تكون محدودة بزمن دون زمن، أو بمكان دون مكان، أو أن تستأثر بها طائفة دون أخرى، بل هي رسالة الأزمان كلها، ورسالة الأماكن كلها، ورسالة العوالم كلها؛ فإذا كان أول ما نزل من القرآن الكريم يُنوِّه بقدر العلم وشرفه كما جاء في قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].

فإنَّ أول ما يَتفوَّه به المسلم بين يدي الله في صلواته كلها قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3].

فالله جلَّ وعلا  ليس ربَّ بشرٍ دون بشر، ولا ربَّ المسلم دون الكافر، بل هو ربُّ العالمين، وهو الرحمن الرحيم التي وسعت رحمته العوالم كلها..

بهذا المفهوم القرآني الكوني تتسع آفاق المسلم، ويمتد بصره بامتداد رسالة الإسلام، ويبتعد عن القُطرية الضيقة التي تُقزِّم الفكر وتحدده، وتجعله منطويًا على نفسه أو على طائفته، بعيدًا عن أن يكون رحمةً للعالمين!

وفي ضوء هذا تكون رسالة المسلم رسالة تجمع بين العلم والرحمة، يذكر الإمام ابن تيمية في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65].

أنَّ من خصائص الأنبياء وأتباعهم أولي العلم: الجمع بين العلم والرحمة؛ لأن الناس لا يدينون بواحد منهما فقط، ولهذا جاء قوله تعالى:

{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}

 [آل عمران:159].

فالحاملون لرسالة الإسلام ليسوا سادة على الناس، وليسوا أوصياء عليهم، بل هم دعاة لا قضاة، إنهم دعاة تيسير لا تعسير، وتبشير لا تنفير..

وعليه ينبغي أن تكون نظرتهم إلى سائر المسلمين أنهم إخوة في الدين، وأنهم جميعًا يُصلون إلى قبلة واحدة، وأن يتخلوا عن روح الطائفية والاستعلاء؛ فليس من شأن المسلم أن يستعلي على أخيه المسلم، بل يكون كما جاء في الحديث الصحيح:

«المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا – ويشير إلى صدره ثلاث مرات – بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».

[رواه مسلم].

وهذا ما يدعوهم إلى أن يتحرروا من النظر إلى رأيهم على أنه الصواب الذي لا يحتمل الخطأ، وإلى رأي الآخرين على أنه الخطأ الذي لا يحتمل الصواب، وأن يعلموا – كما قال ابن تيمية – أن (الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أُخوَّة..).

كما ينبغي أن تكون نظرتهم للناس كنظرة القرآن، فالقرآن ينظر إلى الناس -على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وتباين أقطارهم- أنهم أسرة واحدة، للواحد منها حق الأسرة وعليه واجبها؛ فلا تظالم، ولا طغيان، ولا طبقات، ولا استغلال، ولكن محبة، وتآلف، وعدل، ومساواة.

وهذا أصل قرره القرآن في غير ما آية، ودعا به الإنسانية إلى التصافي، والتعاون، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.

وتشير بداية سورة (النساء) إلى نفس المعنى، إلى الأمر بتقوى الله، ثم إلى أولى النعم وأهمها، وهي نعمة الخَلْق ونعمة الرحم التي انتظمت الناس جميعًا، والتي نشأت عن خَلْقِهم من نفس واحدة،

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].

[انظر: محمود شلتوت، تفسير القرآن الكريم].

ويؤكد النبي للجموع الحاشدة في حجة الوداع هذه الحقيقة الأساسية في وحدة البشرية، حين قال: «أيها الناس، إنَّ ربكم واحد، وإنَّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب». [رواه أحمد في المسند، وقال مُخرِّجوه: إسناده صحيح].

وقد كان من  وصايا الإمام عليٍّ رضي الله عنه: الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخَلْق.

وتلك الحقيقة عبَّر عنها الشاعر بقوله:

إذا كان أصلي من تراب فكلها .. بلادي وكل العالمين أقاربي!

فجدير بأهل الحضارة الحديثة والثقافة البشرية أن (يخلعوا أنفسهم مما كبَّلوها به من أغلال الجحود والنكران والتعصب برهة من الزمن؛ ليتفهموا فيها تلك الحقيقة الواقعية التي يقررها الوحي الإلهي، فيثوبوا إلى رشدهم، ويريحوا أنفسهم من عناء التكتل الجنسي، أو الإقليمي، أو الديني؛ استعدادًا لهذه المجازر البشرية التي يسقون فيها الأرض بدماء أرحامهم وإخوانهم في الإنسانية التي كرَّمها الله وفضَّلها على كثير من خلقه).

[محمود شلتوت، نفس المرجع].

تلك هي رسالة الإسلام:

رسالة علم ورحمة، فمَن ضاقت نفسه -كما قال أحد المفكرين- عن رحمة الخَلْق، فليس أهلًا لرعاية العالمين ورعاية الكون المحفوظ بالرحمة والمُسيَّر بها. والأمة التي تستوعب مفهوم الرحمة وروحها في وعي أفرادها وفي ممارساتهم مع كل خَلْق الله هي المؤهلة لقيادة رسالة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].

من د. إبراهيم التركاوي

كاتب وباحث وكاتب في الفكر الإسلامي