من أخطر آثار تسلط الاستبداد العسكري على بلادنا بعد تبديل الشرائع؛ هو تفريق الأمة شيعاً واستضعاف طائفة منها -وهي تلك التي تنادي بعودة الشريعة- وفصلها عن سائر الأمة، بل وإيقاع الشقاق بينها وبين بقية علماء الملة وسائر أهل الله من العباد والزهاد والصالحين.

ويأتي هذا التفريق باعتبار طرح الطائفة الأولى سياسياً؛ وبقية الفئات طرحها تعبدي أو علمي دون التعرض لشؤون الواقع، وهي تلك التي تزعج الحكام بكل تأكيد.

وقد طرح بعض أهل الفكر والنظر آثار عملية العزل القسري للحركة عن جموع الأمة، وما أدى إليه من تسلق كثير من النفعيين وزهد كثير من منتسبي العائلات الكبيرة وأبناء الأصول كما نقول في الالتحاق بها!

وفي رأيي المتواضع أن هذا الأمر غير صحيح بهذه الصورة، فكثير من أفراد وقادة الحركة الإسلامية في أقطارنا -خاصة في بلد كمصر- هم من الطبقة المتوسطة، خاصة في فترة السبعينات والثمانينات والتسعينات، وذلك لأنها الطبقة الأكثر انتشاراً والأوسع امتداداً، غير أن التأثير الطبقي لا يبدو واضحاً في غير هذه النقطة، إذ ينحدر بعض الأفراد والقادة من عائلات كبيرة حسب نسبها في تمثيل الواقع المصري.

ولكن للأمر وجه آخر؛ فالحركة الإسلامية في مجملها سائلة أو حركة أوزاع ونُزاع وهذا شيء طبيعي، خاصة في الوسط السلفي الأكثر توسعاً عبر العقود الأخيرة بفعل المد الخليجي.

ومع تدشين مرحلة ما سمي «بالقنوات الدينية» وشيوع الفضائيات في القرى والأرياف خاصة؛ لاقى ذلك الطرح الدعوي -التمثيلي- والمتعلق بالشعائر التعبدية والرقائق قبولاً عند كثير من أهل تلك المناطق، والتي كانت درجة التعليم فيها أقل بنسبة كبيرة، كما تعاني من حالة البساطة التي ميزت الريف خاصة في ذلك الوقت، وأهم من ذلك هو ما تقدمه من تدين لطيف وآمن وأكثر حفاظاً على مكتسبات القنوات والشيوخ والأفراد بالتبعية.

بينما غذت تلك القنوات حالة التدين عند غيرهم من الفئات كالإخوان والجهاديين ولكنها جعلتهم أكثر عصبية لجماعاتهم لافتقارها لمعالجات مهمة.

 دخل في هذه الحركة تلك الفترة كذلك كثيرون ممن لا شأن لهم ولا مواهب أو ملكات مميزة، لأنها تتيح لهم فرصة الظهور والتميز ولو شكلياً، مع طموح بعضهم للتصدر الفعلي سواءً كان ذلك بقصد او بدون قصد إذ قد يشوب بداياتهم التزام أو حب صادق للدين.

وقد وفرت الحركة الإسلامية بحالتها تلك ميزة وحيدة ممكنة في حق أمثالهم، عبر خاصية التقدم بقدر الانضباط بأعراف وأفكار الفئة التي التحق بها، مع المبالغة في ذلك حتى يصل لمكانة -وربما ثروة- لم تكن تؤهله لها مجموع أوضاعه المادية أو مواهبه الشخصية!

وقد كرست أجواء المظلومية هذه العزلة، إذ جعلت من مقتضيات الالتزام خلع كل ما له علاقة بالجاهلية والاستعلاء عليها -وذلك حق في ذاته- لكنه ومع الضغط حول مسار هذه الحقيقة الشرعية والضرورة الواقعية.

ومع توسع الحركة جداً واستئصال القادة والكوادر فيها؛ سرت فيها سنة الله في الخلق وقل فيها الأفذاذ؛ إذ جماهير الناس هم من الأتباع وليس فقط جماهير الحركات الاسلامية، ويكثر في البسطاء والضعفاء الأرقون مروءة والأبعدون منزلة أو «قليلوا الأصل» كما وسمهم صاحبي، وهؤلاء ربما قد ترعرعوا وتضخموا داخلها!

فكرة الطلقاء في بعض فصولها تتكرر داخلنا بتوالد ذاتي، كما أن إقصاء القيادات المبدئية التي ندر أن تصدر منها تصرفات ذاتية تنصرف عن أصل قضيتها، وغياب هذه الفئة يخلي الأجواء للبغام فتبيض وتصفر في ساحتهم الخالية!

من د. خالد سعيد

أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر