النقلة السياسية الهائلة لتركيا في عهد العدالة والتنمية؛ أدت إلى ثقة الشعب في النزاهة وإمكانية التحول السلمي للسلطة، حتى كانت نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات مدهشة؛ إذ جاءت مقاربة لـ90% في الجولة الأولى أي حوالي 54 مليون ناخباً، مما حدا بالصحافة الأمريكية للاحتفاء بها واعتبارها نسبة لا يمكن أن تتحقق في أمريكا أو فرنسا على سبيل المثال.

وقد ترتب عليها نقلة اقتصادية وتنموية على نفس المستوى انتقلت بالدولة لمجاراة ومنافسة الدول الغربية الصناعية الحديثة، في سبيل تحقيق دولة الرفاه، التي ارتفع فيها مستوى الدخل القومي إلى ما يقارب السادس عشر عالميا بعدما كان أدنى من ذلك بعشرة أضعاف قبل دولة العدالة والتنمية.

رأيت بنفسي كثيراً وسمعت من غيري عن أحوال الشعب التركي في عهود العلمانية المتوحشة، إذ كان حال الشعب التركي شبيهاً بحال الشعب المصري حالياً ومنذ عقود خلت، والفرق بينهما أن المصري غالباً ما يشقى ويهان ويقلل من قيمته في الدول العربية “الشقيقة”بينما كان المواطن التركي يلقى مثل ذلك وزيادة في كل أصقاع أوربا والتي كانت تمعن في إذلاله وتوظيفه في المهن الدنيا؛ خاصة مع انخفاض مستوى التعليم آنذاك في تركيا، ولم تشهد الأجيال الجديدة بطبيعة الحال كل ذلك، بل لم تر مدى التدني في الحريات والخدمات والبنية التحتية، وهو الوضع الذي انعكس تماماً الآن على كل المستويات.

في الحقيقة كان ظاهراً لمن يفقه موازين القوى والسياسة أن النظام الذي تزعمه أردوغان لا يسعى، وربما يظن أنه لا يستطيع القضاء على العلمانية وكل مخلفاتها، كما أن معتقداته الصوفية طريقة والمتأثرة برسائل النور ومدرسة النورسي طيب الله ثراه، والإخوانية سياسة مع فروقات توسعت زمنياً، والأناضولية قومية، كانت كل خصائصه تلك تسير في نفس الاتجاه، وبدا جلياً أن اتجاهه العام هو ترويض العلمانية، أو إن شئت قلت الانقلاب الناعم عليها وإبدالها بالعلمانية المرنة أو علمانية الحريات الأليفة، وربما لم يدر بخلده قط استبدالها بدولة الشريعة أو دولة الخلافة كما في أدبياتنا ومعتقداتنا، ولذا حملناه جميعاً ما لم يحتمل أصلاً!

وبغض النظر عن تصوري الشخصي للموضوع برمته، وبعيداً عن التشنجات المستحيلة والتحفظات الممكنة؛ لكنه دفع ثمن عدم أدلجة الدولة التركية وهو البعد الذي كان مقصوداً ومتعمداً، فقد عمل على تعميق قوة دولة الرفاه التي ترفض الانقلابات وتعتمد التغيير السياسي، وتحقق التقدم الاقتصادي والعسكري والاستقرار المجتمعي، فنشأت أجيال ولدت وتربت وكبرت في ظل دولة الرفاه، فصارت تحاسب نظام الرفاه على ما هو أعلى وأدنى في مستويات الرفاهية تلك، وهو ما كاد يودي بنظام أردوغان نفسه -وهو صانع تلك الرفاهية أصلاً- الذي اتهمته تلك الأجيال “بانخفاض” مستوى المعيشة، إذ هو كل ما يهمها بعيداً عن أي بعد اعتقادي.

وأخشى ما خشيت أن يسقط ذلك النظام في يد الطغمة القومجية، التي كان من وعود مرشحها للشعب التركي؛ الاستدانة من صندوق النقد الدولي!

وبالتالي فسقوط أردوغان لا سمح الله كان سيعني التردي في حفرة التبعية والانحياز الدوني للغرب، ولا أظن المنطقة كانت ستحتمل ذلك بعدما حدث لمصر والسعودية، وبعد تحييد إيران في حيز الطائفية طوعاً أو كرهاً بعد أحداث سوريا خاصة ومن قبلها العراق.

مبارك لتركيا ولشعوب المنطقة والعقبى لبلادنا التحرر والازدهار، وفق الله أردوغان لما فيه خير تركيا ووفقه لتغيير ما تبقى من دنس العلمانية ورجسها، وجعل ذلك خيراً للمسلمين أجمعين.

من د. خالد سعيد

أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر