كنت شاباً صغيراً يتوقد عقلي لمعرفة سر الصراع الجاري في مصر التي وصلتها حديثاً في عام ١٩٨٤م، وكنت قد سمعت من والدي الذي كان يميل لتأييد عبد الناصر، لكنه يعتبر أشنع خطاياه هي قتل سيد قطب، وكان يذكر ذلك بحزن شديد.

وكانت تلك الفترة بداية خروج أول دفعة من تنظيم ٨١م، وكنت في الثالثة عشرة من عمري ونيفاً،

فلقيت أحد أبناء الجماعة الإسلامية حديث الخروج آنذاك فحدثني عن السيد الشهيد قليلاً جداً، لكنني كنت أختزن ذلك كله في عقلي.

ثم انتقلنا لبلد آخر ولقيت إخواننا الأُول هناك،

وكنت أتساءل كثيراً عن الأستاذ سيد قطب وما جرى معه ولماذا كل هذا العداء لرجل رحل منذ سنوات،

فأعطاني أخي الفذ د. أبو حفصة حفظه الله نسخته من كتاب «معالم في الطريق» بطبعته القديمة.

وكأنه فيه سر يستعصي على المبالغة

ولفت نظري أن سيد قطب تحديداً من بين كثير من الرموز المعاصرة -ورغم قيمته العظيمة في النفوس-

لا تكال له المدائح الكلامية ولا يتم التسويق له بعبارات المبالغات اللفظية القيمية

كتلك التي تصاغ الألباني أو دراز أو مالك بن نبي وغيرهم،

اللهم إلا حالة من «الجلال الصوفي» تجوزاً تصيب كل من يتحدث عنه أو ينقل منه أو يقرأ له،

وكأن هذا الرجل تحديداً فيه سر يستعصي على المبالغة، أو كياناً ممتلئاً لكنه عصي على النفخ فيه.

لم أكن أعلم السبب في الحقيقة حتى قرأت له، فوجدت رجلاً ملحمياً عجيباً، لا أدري ما كل هذا الجلال،

ويكأنه يتقمص نفس الجملة الشهيرة في مقدمة طه حسين لكتابه «على هامش السيرة»

إذ يقول: (كان الرجل مهيباً رهيباً، فخماً ضخماً)، والذي كتبه شراكة مع سيد قطب ولكنه لم يطبع إلا بعد حذف اسم قطب.

نعم قرأت في المعالم؛ فلا أدري لماذا كنت أشخص ببصري وكأني أنظر لقطب يكتب هناك فوق جبل وتنصب كلماته كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل!

ليصوغ حقائق كبرى، ويُنظر لأفكار كونية، ويتحدى نظريات أرضية شاملة،

كل هذا بسلاسة لا كتسطيح البسطاء المتعالمين الذين يظنون أنهم يهدمون صروحاً بكلماتهم الساذجة،

ولكنها بساطة المتمكن المُلِم لدرجة أنه يتلاعب بهذه الأفكار إذ يفككها كما يلعب الفذ بحربته في بطون أعدائه.

بركان تحت أمة

رأيت رجلاً محزوناً يكتب إذ تقطر كلماته مُر الحنظل، وتُذيق طعم العلقم، لا كحزن المرزوء في نفسه أو ماله أو دنياه،

بل جل المصاب فهون الأرزاء، رجلاً يحمل هم أمة وحزن ملة وثقل الزمان وعبء القرون

التي انهارت فيها إذ بعدت بها عن حق الخلافة أمتي، حزن ينبع مع قلب موالٍ لهذه الأمة بكل أحزانها.

صاحب الظلال.. سيد قطب

ثم هو رجل غاضب أشد الغضب، وأشد ما يكون الغضب ما يُعجز عن نفثه ويستعصي عن كتمانه، لا غاضب كالحمقى الغاضبين لثأر شخصي أو مطلب ذاتي،

بل هو كبركان تحت أمة، انفجر فنفث حممه ليثير الكامن ويهيج الساكن، ويقلب الموروث ويهيل الركام،

ويزعج كل القوى المتهالكة وكل الفئات المتربصة وكل جماعات الضباع من حولها.

نعم هو شمولي وهو مستعلٍ وهو حزين وهو غاضب.

أعلمت كيف يكون وقع الكلمات إن كانت أحد من السيوف، حتى تسمع لها صليلاً وهي تتراص كصفوف في المعركة،

معركة الإسلام والجاهلية، «الجاهلية» التي انحاز لها أصحابها فأقلقهم لمز قطب لها وتشنيعه عليها فأرادوا إسقاطه وإسقاط الإسلام معه.

قرأت لقطب وتلمست معالمه معلماً معلماً منذ الجيل القرآني الفريد «الصحابة» وحتى أصحاب الأخدود «وغلام الأخدود» الذي تمثل سيرته قطب فكان هو أو كأنه هو؛

فلا تدري أهو يتقدم في عرصات المستقبل من الجيل الأول وحتى المعركة الفاصلة حيث النصر أو الشهادة،

أو يتعمق في التاريخ فيخط خطاً بين الماضي البعيد والقريب، أو بينهما وبين الحاضر.

رأيت قطباً بل رأيت عجباً؛ وكأنه يعلم ما ستلقيه قوى الجاهلية على ظهره من قاذوراتها وهو ساجد؛ فيرد عليها قبل أن تفعل.

إذ تشنع عليه كتائب العسس المدخلية والمغارات النفاقية؛ بأنه يقول بوحدة الوجود،

بينا هو يعقد لواء المعركة على الحد الفاصل بين حاكمية الله وحقه في التشريع، وبين حكم البغام وسوق العوام به في الدماء والأموال والدماء  كالرغام.

ولو كان وجودياً وحدوياً لكان حكم الله عنده وعبد الناصر سواء!

نعم يرد عليهم ويوفهم الصاع صاعين قبل أن يدفعوه فيقبضوهما،

إذ يتهمونه بانتقاص الصحابة فيقدم أعظم إنتاجاته الفكرية إذ  هو خلاصة ما أشربه هناك من معاني الحق إذ هو يتفيأ ظلال القرآن، فيصدمهم في أولي معالمه بتمجيد الجيل القرآني الفريد فيقطع منهم الوتين.

ولي مع الظلال شأن آخر أعود إليه ثم أعود إن شاء الله.

من د. خالد سعيد

أحد أبناء الحركة الإسلامية - مصر