لا يحتاج باحث مثل د. سامي عامري إلى كثير من التعريف به، فما من باحث في مجال مقارنة الأديان أو مكافحة تيار الإلحاد والعلمانية والنسْوية إلا وقد مرَّ عليه أو استفاد منه، ذلك أنه أثرى المكتبة بعدد غزير من المؤلفات الرصينة، التي تمثل بمجموعها مشروعاً علمياً واسعاً في بيان الإسلام وإبطال المذاهب الوضعية والأديان المحرفة، ولا تكاد تدور السَّنة إلا ويكون د. عامري قد أضاف إلى قرائه عدداً جديداً من الكتب التي تحتاج من غيره سنين عدداً.

أجرى الحوار: محمد إلهامي

محمد إلهامي
محمد إلهامي

تجولنا -في هذا الحوار- سريعاً على أبرز ما رأينا أن القارئ العربي يحتاج معرفته عن الشبهات الغربية المثارة عن نبينا ، وعن طبيعة الحالة الثقافية، وطبيعة ما تحتاجه الحالة الغربية من مجهودات إسلامية لبناء الشخصيات القادرة على نصرة النبي وبيان سمو رسالته. ولهذا فلا بد في هذا الإطار من الإشارة إلى أن عطاء د. سامي عامري أوسع من مجال الحوار الذي اقتصرنا عليه، وينبغي على القارئ أن يتوسع في تتبع إنتاجه والاستفادة من موسوعيته.

• ما قصة كتاب «براهين النبوة»، ولماذا فكرت في تأليفه؟

•• العنوان الكامل للكتاب هو: «براهين النبوة والرد على اعتراضات المستشرقين والمنصرين». وهو مبين عن طبيعة الكتاب وغرضه؛ فهو في تأصيل دلائل النبوّة وتفصيل أوجهها، والردّ على المخالفين. والكتاب جزء من مشروع كامل قاربتُ على الانتهاء منه، عنوانه «الإلحاد في الميزان». وهو سلسلة في الردّ على المعارضات الإلحادية للإيمان.

وأصل المشروع طلب مواجهة تنامي المناكفة الإلحادية لعقيدة الأمّة بعد ظهور ما يُعرف «بالإلحاد الجديد» في الغرب، وفشل ما يُعرف بالثورات العربية في بلادنا، وما أحدثه ذلك من صدمة، وانتكاسة، وفوضى معرفيّة. وقد سعيتُ أن أتناول بالتحليل والنقد هذه المعارضات، بنفس طويل هادئ لا يُغفل أهم الاعتراضات.

والناظر في الأدبيات الإلحادية سيلاحظ أنّ أعظم اعتراض مكرّر، هو القول إنّ الإسلام قائم على التسليم الإيمانوي العجائزي الأعمى، فالمسلم -بزعمهم- ينحاز إلى دين الأجداد دون رغبة في الرد على المعارضات ولا الدخول في جدل علمي شجاع مع المخالفين. وهو اعتراض يجب على المسلمين مواجهته بأن يُظهروا الأدلة على صدق معتقدهم في معترك الأفكار.

والحجّة التي على المسلمين النهوض لبيانها متعلّقة بإثبات موافقة أصل دينهم للحق، أي وجود إله مستحق للعبادة، وأنّه واحد أحد، وأنّه أرسل محمّدًا ﷺ بالرسالة في القرن السابع الميلادي، وأيّده بالدلائل القاطعة على نبوّته.

وقد قدمتُ رؤيتي لأدلة صدق الإسلام في جواب الأسئلة الثلاثة السالفة؛ ففي كتاب «براهين وجود الله في النفس والعقل والعلم» بيان دلائل وجود الخالق سبحانه ووحدانيته. وهو بذلك يرد على الملاحدة واللاأدريين. وأمّا كتاب «براهين النبوة» ففيه جواب السؤال الثالث المتعلّق بدلائل نبوّة محمّد . وهو ردّ على الملاحدة واللاأدريين والربوبيين والنصارى.

لا شكّ أنّ المكتبة الإسلامية قد قدّمت للقارئ مصنّفات كثيرة في باب دلائل النبوّة. وقد شعرت مع ذلك أنّ الساحة لا تزال تطلب المزيد، لسببين: أوّلهما أنّ إمعان النظر يفتح أمام البصر إشراقات جديدة للنبوّة الخاتمة، وثانيهما أنّ لكلّ عصر مزاجه الفكري، بما يقتضي مخاطبة أهل كل عصر بما يرضي عقولهم ويمسّ أفئدتهم.

فكيف كانت خطة الكتاب ومنهجه في معالجة هذه القضية؟

•• يسلك الكتاب ثلاثة مسارات في تناول دلائل النبوة الخاتمة، أوّلها بسط أدلّة النبوة، بأجناسها المختلفة، وثانيها عرض أهم اعتراضات المخالفين من أعلام المستشرقين والمنصّرين، والردّ عليها، وثالثها بيان فساد النصرانية من الباب ذاته الذي نثبت من خلاله صدق الإسلام.

ولعلّ هذا الكتاب يتميّز عن عامة الكتب التي ألّفت في هذا الموضوع، بقيام نهجه لبيان ربّانيّة القرآن على مقارنة آياته بما عند اليهود والنصارى من نصوص. وسبب اختيار هذا الطريق، حقيقة أنّ القرآن كتاب «ظهر» بين البشر في القرن السابع الميلادي في جزيرة العرب. ولما حاول المستشرقون والمنصرون رد ربانيته، قالوا إنّ حاله لا يخرج عن أمرين اثنين، إمّا أن يكون مُستسقى من التراث اليهودي – النصراني، أو هو كتاب من عند الله؛ فإنّ ما فيه من موافقة لذاك التراث ومخالفة له، لا بدّ أن تردّ إلى من هو على علم جيّد بتراث الأوّلين؛ فهو إمّا علم كسبي أو هو علم لدنيّ ربّانيّ.

وقد استفرغ المستشرقون جهدهم لبيان أنّ القرآن لا يعدو أن يكون نسخة متأخرة من تراث اليهود والنصارى في أرض الحجاز. فجاء هذا الكتاب يوضح للقرّاء أنّ القراءة النقدية الواعية بتاريخ القرن السابع لا بد أن تجزم أن هذا الكتاب لم ينبت من الأرض بل نزل من السماء. وهو باب من النظر غزير التفاصيل.

وربما الحديث الإجمالي عنه هنا لا يفي ببيان صورته. ولذلك فالاطلاع المباشر على الكتاب هو الطريق الوحيد لبيان منهجه، وأدلّته، ومبلغ التزامه بالموضوعيّة. والكتاب متاح على الشبكة مجانًا على موقعنا، موقع (مبادرة البحث العلمي للمذاهب المعاصرة والأديان).

ذكرتَ أن تنامي موجة الإلحاد كان بأثر من أمريْن: انتشار «الإلحاد الجديد» في الغرب.. و«فشل الثورات العربية».. ما هو هذا «الإلحاد الجديد»؟ وفيم يختلف عن «الإلحاد القديم»؟

•• «الإلحاد الجديد»، تيّار دهري ظهر بعد أحداث 11 سبتمبر، وأبرز ملامحه، الطابع العِلموي، والنهج النضالي الصدامي. أمّا الطابع العلموي، فمتعلّق بالدفاع المستميت عن القول إنّ العلم المادي هو الطريق الوحيد إلى المعرفة، وأنّ المعرفة الدينية مجرّد خرافة، أو ثرثرة -بعبارة فلاسفة الوضعية المنطقية-.

وأمّا النضال، فمتمثّل في أنّ هذا التيّار يقوم على وجوب «التبشير» بالإلحاد، ومحاربة المؤمنين بالله بكل صورة، ومنعهم من تصدّر المنصّات العلمية والتعليمية والإعلامية. ولذلك يُسّمّى هذا التيار «militant atheism». فهو تيّار قائم على المناكفة والاستفزاز، حتّى لُقّب أنّه قد تجاوز في طبيعته «الإلحاد: إنكار الإله» «Atheism» إلى أن أصبح تيّار “كره الإله” “Misotheism”.

كما يختلف الإلحاد الجديد عن الإلحاد التقليدي في اختراق المجال الشعبي العام، واستعمال اللغة التواصليّة البسيطة، وأدوات الإعلام العامة، من طرف عوام وأشباه مثقفين، بالإضافة إلى رموز التيّار الكبار، على خلاف الإلحاد التقليدي الذي كان -عامةً- نخبويًا في خطابه، ولا يُصدّر في المجال العام الغربي للدفاع عنه إلّا قلّة من المتميّزين داخله.

وكيف ترى من موقعك كمتخصص في هذا الباب أثر فشل الثورات العربية على انتشار الإلحاد.. كيف نربط بين هاتين الظاهرتيْن؟

يشهد الغرب اليوم صعود طبقة من الشباب المسلم المثقف يملك أدوات التفكير لكن يفتقد التوجيه العلمي الصحيح

•• فشلُ ما يُعرف بالثورات العربية هدم الثقة في عامة البنى التقليدية للمجتمع، ومن أهمّها التيّارات التي ترفع لافتات إسلاميّة، وأنشأ حالة يأس من الإصلاح -بعد سقوط رمزيّة مشاهير الإعلام الدعوي، ورغبة في تجربةِ غير المألوف.. وقد تقاطع ذلك مع ضرب جميع التيارات الدعوية أمنيًا، وإغلاق المنابر الكبرى، وإخراج المساجد كليّة عن مساحة التأثير المعرفي والتربوي، فوجد الشباب أنفسهم في العراء، لا شيء أمامهم سوى منصّات اليوتيوب، والفايسبوك، وتويتر.. وهي منصّات مفتوحة بلا ضابط، كما أنّها سبيل للترويج السهل والسريع والسلس للأفكار التغريبية الوافدة، ومنها الإلحاد العلموي الذي يعيش على الإبهار البصري، والتهويل والتدليس.

لك عدد من الكتب عن القرآن الكريم وما جاء فيه مثل «شبهات تاريخية» و«العلم وحقائقه» و«الوجود التاريخي للأنبياء» و«هل القرآن مقتبس من كتب اليهود والنصارى».. وغيرها.. وتبدو هذه الكتب شديدة الإقناع للقارئ، ولكن: كيف ترى رد فعل الغربي حين يقرؤها؟ كيف يتصرف مع مسائل مثل المعارف الموجودة في القرآن والتي لا يمكن للنبي أن يحوزها في زمانه.. السؤال ببساطة: الأمور التي تبدو واضحة جداً لنا، لماذا لا تبدو كذلك لهم؟ أو على الأقل كيف يتصرفون في شأنها؟

•• ربّما أقول: هي أمور لا تبدو واضحة عند الغربيين؛ لأنّها -ببساطة- لم تصلهم.. فالغالب على الكتابات الإسلامية باللغات الغربية أنّها موجّهة إلى قارئ غير شكوكي، فهي تنحو نحو الإفراط في التبسيط، والاختصار، والاختزال، وتجاوز عرض الإشكاليات، وأجوبتها.. ولذلك فالمكتبة الإسلامية الغربيّة بحاجة إلى ثورة، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؛ فالكتاب الإسلامي يجب أن يُكتب بقلم متعمّق في المكتبة الغربية، وعلى دراية بالعقل القلق للغربي، ويُحسن توثيق الإحالة، والردّ إلى مصادر موثوقة.

ومن الواجب هنا أن أضيف أنّ الغربي وإن كان يتميز بالنهم الشديد للقراءة، فالكتاب جزء من حياته اليومية، إلا أنّ قراءاته في القضايا العقدية والدينية والفلسفية ضعيفة جدًا. كما تشهد الاستبيانات المتتالية أن معرفة الغربيين بالنصرانية ضعيفة، بالإضافة إلى أنّ فيها سوء فهم للكثير من القضايا العقدية والتاريخية. وهذا ما ظهر بصورة فاحشة وفاضحة عندما انتشرت رواية “شفرة دافنشي” التي حققت مبيعات مليونية، فقد صدّق كثير من الناس ما جاء فيها من دعاوى تاريخية باطلة، رغم أنّ صاحب الرواية أجنبيّ كليّةً عن الدراسات الدينية، كما أنّ رواياته فيها كثير من الأخطاء التاريخية البيّنة في الحديث عن التاريخ المبكّر للنصرانية.

إنّ الغرب اليوم يشهد صعود طبقة من الشباب المسلم المثقف الذي يملك الأدوات الأولى للتفكير، لكنه -للأسف- يفتقد التوجيه العلمي الصحيح في باب دراسة الثقافة الغربية بعمق وأصالة. ولذلك نحتاج إلى إنشاء مؤسسات تعليمية وتثقيفية وتربوية تهتم باستقطاب الشباب المسلم وتوجيهه الى الدراسه العلمية النقدية الواعية للعقائد الغربية، والانتقال من مرحلة “الهواية” إلى مرحلة «التخصص العلمي».

برأيك، ما أهم العوائق التي تحول دون إنشاء مؤسسات تعليمية وتربوية قوية تخرّج الشباب المسلم المتمكن من الثقافة الغربية؟

•• العائق الأكبر، غياب الداعم المالي لمشاريع طويلة النفس، بطيئة الأثر، مكلفة.. فهي طويلة النفس لأنّها تعمل على صناعة عالِم، وباحث، ومحقّق، وليست غايتها تقديم وجبات فكرية سريعة وخفيفة.. وهي بطيئة الأثر؛ لأنّها ليست ردّة فعل آنية تورث أهلها ثمرة عاجلة، وإنّما تحفر في الأرض، لتزرع بذرة، نطمع أن تصير شجرة باسقة بعد زمن.. وهي مكلفة، لأنّها تقوم على استقطاب أهل التخصص، وتتكفّل بدفع رواتب بصورة دورية. وكلّ مشروع يقوم على رواتب دورية، يحتاج ميزانية كبيرة.. وللأسف الشديد، هذه المشاريع لا يملك دعمها إلّا كيان سياسي (دولة). وهذا بعيد في واقعنا المعلمَن، أو أثرياء أصحاب ملايين، وهؤلاء أندر من الكبريت، رغم كثرة أصحاب الملايين في أرضنا، فإن ندرتهم سببها أنّه لا بدّ أن يجتمع في هذا الثري، المال الوفير، والقناعة بقيمة العمل الفكري في صناعة أمّة قويّة وجيل محصّن من الأمراض العقدية.. وكنتُ أرجو أن تقوم الجماعات الدعوية الكبرى بهذه المشاريع، لكنّها للأسف انشغلت بأوهام التمكين البرلماني، وانغمست في استعجال قطف الثمرة، استنصارًا “بالمتعاطفين” العاطفيين، لا أبناء الإسلام الواعين.

الإرهاب، والحدود، والمرأة.. القضايا الأكثر تشويهاً للإسلام في الغرب

ليس الإشكال إذن في وجود طائفة من الشباب المتحمّس لنصرة الدين، وإنّما في وجود مؤسسات علميّة، رساليّة، ذات إمكانيات ماديّة في حجم التحدّي والآمال.. والقضيّة عظيمة جدًا، قد عجزت عن أن أجد لها حلًا واقعيًا إلى الآن، للأسف الشديد.. ولذلك على الدعاة العمل في حدود الإمكانيات الهزيلة المتاحة، حتّى يأذن الله بالفرج لهذا الجيل. وما لا يُدرك كلّه، لا يُترك كلّه . ولله الأمر من قبل ومن بعد.

• من واقع المعيشة في الغرب، إذا حاولنا أن نذكر أهم ثلاث شبهات تثار عن النبي ﷺ هناك، فما هي؟

•• لا شكّ أنّها «الإرهاب»، والشريعة (هكذا يسمونها Sharia، دون ترجمة، لِوَقْعِ هذه الكلمة الغريبة على الأسماع، مع صور قطع الأيادي ورجم الزناة الراسخة في الأذهان!)، وحقوق المرأة؛ فهي حاضرة بكثافة في الثقافة الشعبية الغربية، وفي خطاب اليمينيين والمنصّرين.

كيف تنصح بالتعامل مع هذه الشبهات الثلاثة؟ بمعنى: ما المداخل الأنسب للعقلية الغربية لمعالجة هذه الشبهات؟

•• من الناحية العملية، هناك مدخل تلفيقي يحاول الرد على هذه الشبهات من خلال تبني مقولات الليبرالية الغربية وتحريف الإسلام. وهذا المسلك -بلا شك- نهج غير مرضي إسلاميًا. وللأسف الشديد صار لهذا التيار حضور لافت في الغرب، فله منصّات متعددة، ومدعومة من جهات مشبوهة ومكشوفة. ويمثّله بصورة أولى ما يُعرف بتيّار “المسلمين التقدميين” “Progressive Muslims”. وهو “تقدّم” إلى الخلف، طلبًا لموافقة جاهليات الغرب، دون التنصّل الظاهري من الإسلام.

وهناك مسلك آخر، وهو الذي يمثل المنهج القويم في التعامل مع هذه الشبهات، وهو بيان فساد هذه الشبهات من جهة خطأ نسبتها إلى الإسلام ما ليس فيه، وبيان الرؤية الإسلامية من منصوص الوحي، وفي الآن نفسه تفكيك أصول الرؤية الكونية الغربية، وبيان ما فيها من تناقضات، وما يلزم عنها من فساد؛ فإنّ الرؤية الكونيّة الغربيّة أصل استشناع كثير من شرائع الإسلام. ودون نقد المقدمات، يتعذّر الوصول إلى نقض الشبهة من جذورها. ولا شك أنّ هذا الأمر يحتاج جهدًا وصبرًا كبيرين، للوصول إلى عرض الرؤية الأصيلة والسديدة.

وقد قدّمت المكتبة الإسلاميّة مادة جيّدة في رفع الشبهات عن الإسلام، غير أنّها لم تبذل في الغرب إلى اليوم ما يتناول الرؤية الكونية الغربية بالتفكيك والنقض العقلي. وهو مشروع لا بدّ من العكوف عليه، والإفاضة في تناوله من الباحثين المسلمين، كتابةً، ثم تحويله إلى مادة معرفيّة قريبة من رجل الشارع والمثقف في المحاضرات والمناظرات.

تطور الاستشراق في الغرب تطوراً كبيراً، ولم يعد المستشرق يردد خرافات القرون الوسطى.. والكتب التي تصدرها الجامعات ومراكز الأبحاث الغربية عن الإسلام وتاريخه تزداد قوة ودقة.. ومع هذا، فإنه لا يبدو أن ثمة تخففاً من موجة العداء للنبي والمسلمين في الغرب.. السؤال هنا: لماذا لم ينعكس هذا التطور العلمي والبحثي على تحسين فهم الآخر الذي هو نحن؟

•• هناك أكثر من منهج استشراقي في دراسة الإسلام؛ فهناك المنهج الجدلي المرتبط بأصحاب المشاريع الإلحادية والتنصيريّة وتثبيت المركزية الغربية. وهو منهج قريب جنسًا من مناهج كُتّاب القرون الوسطى، وإن كان لا يلزم من ذلك التطابق في التفاصيل، فالشبهات متقاربة، وهي القول إنّ الإسلام هرطقة نصرانية أو يهودية، والشريعة دموية، والإسلام دين شهواني.. وهناك منهج استشراقي آخر ينطلق في دراسته للإسلام وغيره من الأديان من أنّ الدين ظاهرة بشريّة، وتجربة فرديّة، فلا تُدرس من جهة موافقتها للحق، بل تُدرس دراسة وصفيّة، لمعرفة دقيق مفردات الدين، وطقوسه، وأثره في الناس. وهذا هو السائد في تخصص مقارنة الأديان في عامة جامعات العالم الغربي. وهنالك منهج تلفيقي من المنهجين السابقين، وإن كانت نظرته السلبية إلى الإسلام مهيمنة على مقدماته ونتائجه.

يدعم المنهج الأول الصورة السلبية عن الإسلام وعن الرسول ﷺ وعن القرآن. وأما المنهج الثاني فيرفع سلطان الذوق لا سلطان العقل؛ ليسقط -في الختام- الأديان جميعًا، برفض نقدها، لأنّ غاية الدين ليست إصابة الحقيقة، بل الإشباع النفسي للمؤمن بها. وللمنهج الأول أثر كبير على قطاع واسع في الغرب، خاصة التيار اليميني والتيار المتدين وصناع الأفلام والبرامج الوثائقية. ويخدم المنهج الثاني ثقافة نهاية الحقيقة، وعقيدة النسبوية.

يبدو لنا من بعيد، كمتابعين لا نعيش في الغرب، أن انتشار أفكار النسوية والشذوذ واشتهاء الأطفال… إلخ! تزيد من فجوة الخطاب بين الإسلام وبين هذه الشعوب الغربية.. فالابتعاد عن الفطرة يزيد من البعد عن قبول الرسالة. بينما يقول آخرون: بأن هذا الابتعاد نفسه، يولد محناً نفسية وردود فعل فطرية قوية يجعل هذه الشعوب أكثر تهيؤاً لسماع الرسالة وفهمها، ويستدلون على هذا ببعض مشاهير أسلموا مثل أندرو تيت وغيره.. كيف ترى الأمر؟

•• يسير الغرب حاليًا بسرعة نحو الانهيار الحضاري والقيمي، وتنتشر فيه الأمراض النفسية العميقة التي تحطّم إنسانية المرء وتفكّكه إلى أجزاء متناحرة، بما يفقده طبيعته الأولى البكر، وهذا بالطبع لا بد أن يبعد هؤلاء عن الإسلام. ومع ذلك، فقد صنع هذا التطرف الفكري والأخلاقي والسلوكي تيارًا مضادًا، يتجلى في ظاهرة التعاطف مع شخصيات بارزة تنادي بمعارضة الشذوذ والنسوية. وهو تيّار يتطور الآن فقط في الظلّ؛ بسبب الإرهاب الذي يمارس عليه قانونيًا وإعلاميًا من قبل اللوبيات الليبرالية المتطرفة.

ظهور التيّار المضاد سيفتح مساحات لقبول الإسلام أو الاستماع إلى مقولاته باحترام، خاصة مع  انهيار الهوية النصرانية لعامة الكنائس لقبولها صفقات تصالح مذلّة مع الثقافة السائدة، حتى إنّ كثيرًا من “نجوم” التديّن من القساوسة لا تربطهم اليوم بالنصرانية التقليدية صلة حقيقية؛ فقد دخلوا في دين الليبرالية كلّه، وسلّموا بعامة مقولات النسبية الفلسفية، أو قبلوا لوازمها -وإن لم يصرّحوا بتبنّي أصولها-.

سيفتح التطرّف القيمي والسلوكي في الغرب للإسلام أبوابًا، لكنّ ظاهرة الانهيار التي ستستمر في العقود القريبة أوسع من كلّ إصلاح. وربّما سيكون الانفتاح أكبر على الإسلام بعد أن ينتهي الفساد من دورته الكاملة، ويبلغ جنون ما بعد الحداثة آخره، وعندها سيكون العقلاء والأسوياء من الناس أكثر تهيؤاً لقبول الحق، خاصة إذا ظهرت طبقة واسعة من المثقفين المسلمين من أبناء البيئة الغربية.

السؤال الأشهر الذي يثار لأي مسلم مقيم في الغرب: هل يمكن أن ينتشر الإسلام هناك حتى يسود بالدعوة واستثمار جو الحريات الممنوحة للجميع؟ أم أن الأمر يبدو أعقد من ذلك؟ ولماذا؟

•• في رأيي، الأمر أعقد من ذلك بكثير؛ فالقضية لا تُختصر في صورة مخاطبة غافل عن الحقيقة، إذا سمع حجة الحق انصرف عن دينه إلى دين الإسلام. إنّ الإنسان الغربي يعيش في أكثر من قفص -وأنا هنا أستعير عبارة ماكس فيبر-: قفص المادية، وقفص الفردانية، وقفص الشهوانية، وقفص العدمية، وقفص الخرافات المتأصلة عن الإسلام من موروث العصور الوسطى وأفلام هوليوود وأدبيات اليمين المتطرّف.. هي أقفاص كثيرة، صلبة، تحول بين المرء والنظر في الآفاق.. ثمّ إنّ تغيير العقائد ليس بهذه السهولة؛ فإن الأمم التي سلف أن أسلمت، كان جلها يعيش تحت سلطان الإسلام؛ فكان إقبالها على دين الأمة الغالبة في جو إسلامي صرف.. في حين أنّنا اليوم نعيش في عصر الأمم غير المسلمة المتقدمة ماديًا، ذات اللغة الاستعلائية المغرورة، والأمّة الإسلاميّة أسيرة القهر تحت سلطان الحكم العالماني المحليّ الفاجر.

ولذلك فالغاية الكبرى للمسلمين في الغرب يجب أن تكون الحفاظ على هوية الأبناء من شر العالمانية في جميع صورها (الليبرالية، والاشتراكية، والنسوية…) في ظلّ توحش سلطان الدولة الغربيّة على الأسرة، وهيمنة متطرفي العالمانيين والإباحيين على التعليم.. وأمّا دعوة غير المسلمين فهدف تالٍ لذلك.. والحفاظ على رأس المال أولى من كلّ هدف.. ورأس المال هو الجالية المسلمة نفسها.. العقود القريبة القادمة، عصر طوفان كلّ العقائد الشاطحة المجنونة. ونجاة النفس أهم المطالب.

يؤلف د. سامي عامري في مجالات كثيرة.. التاريخ ومقارنة الأديان والنسوية والإلحاد والعلموية.. وهذه فرصة لنسأل: هل التوسع في المجالات يخصم من قوة الأبحاث؟ أم أنه يزيدها؟.. أو بصيغة أخرى: لماذا لا يبقى د. عامري في تخصص واحد حتى يعطي له سائر جهده وخلاصة عقله؟

 هذه الأبحاث في مجموعها تقع داخل تخصص أكاديمي عام هو “العقيدة والمذاهب المعاصرة”. فكتاباتي تقع ضمن هذه الدائرة الكبرى، وهي تتعلّق بأنساق عقدية وفكرية مرتبطة بالتصورات الكونية الكبرى على مدار التاريخ البشري. فهذا الخيط الناظم لمجموع هذه الأبحاث مرشد إلى أنّ الاهتمام بمجموعها مصدر قوّة للبحث؛ إذ يفيد في إضاءة جوانب قد تبدو متباعدة في الموضوع الواحد.

ومن دلائل هذا الترابط، العلاقة الوثيقة بين الدراسات التوراتية والإنجيلية ودراسة الاستشراق؛ فإنّ الباحث المهتم بالبحث الاستشراقي الديني، المتّصل بدراسة القرآن والسيرة، يجب أن يأخذ بحظ وافر جدًا من الدراسات التوراتية والإنجيلية؛ لأنّ المستشرق يستبطن دائمًا مرجعية التراث اليهودي والنصراني للنص القرآني؛ فالقرآن عنده -بلا شك- نص بشري، مستوحى من تراث أهل الكتاب؛ ولذلك فغايته ليست النظر النقدي في حقيقة ثبوت هذا التأثير أو التناص، بل غايته الكشف عن هذه العلاقة؛ فهي عنده مسلَّمة، وتحتاج شيئًا من الضوء للكشف عن تفاصيلها لا حقيقتها المعلومة -بزعمه-.

وخذ مثالًا آخر، وهو البحث في إعجاز القرآن؛ فالسائد في عامة كتب المتأخرين الاكتفاء بالحديث عن الإعجاز البلاغي أو البياني في هذا الشأن.. والناظر في كتاب الله، سيدرك بوضوح أنّ إخبار القرآن عن القصص المذكورة في التوراة، وتصحيح ما في أسفار أهل الكتاب من خطأ، من أوسع أبواب بيان ربّانية القرآن. وهذا ما يستدعي الإفادة من الدراسات التوراتية والإنجيلية في الباب. وهذا ما اجتهدت فيه، في كتاب براهين النبوة.

من الضرورات الحتمية إنشاء مراكز تعليمية وتربوية قوية، لكن مقومات نجاح هذه المراكز مفقود مع الأسف، بل وهو بعيد المنال.

والأمر نفسه في باب ردّ الشبهات عن القرآن؛ فإنّ عامة الشبهات التاريخية التي تكرّرت في أدبيات المستشرقين والمنصّرين، والتي تلقّفها الملاحدة في قرننا هذا والسالف، لا يمكن الردّ على معظمها بجواب تفصيلي (وإن كان الجواب الإجمالي ممكنًا دون عنت بحثي)، إلّا بعد الاستفادة من دراسات الأركيولوجيا البيبلية Biblical Archeology، والنقد الأعلى  Higher criticismوالنقد النصيtextual criticism  للكتاب المقدس، ودراسات النصرانيات المبكرةearly Christianities ، وعلم الهرطقات  Heresiology..

فلو قرأنا مثلاً قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 72]، ونظرنا في دعوى خصوم الإسلام أنّ النصارى لا يقولون إنّ المسيح عليه السلام هو الله، بل يقولون إنه ابن الله، فالجواب هنا طريقه الوحيد معرفة مقدمة إنجيل يوحنا في ترجمتها المتأخرة الشائعة، ونص 1 تيموثاوس 3/ 16 في قراءة النوع النص البيزنطي، ومذهب Modalism.

وكتاب «شبهات تاريخية حول القرآن الكريم» قائم على دفع الشبهات من خلال الإفادة من هذه العلوم في محضنها الأكاديمي الغربي. ولذلك أنا أحمل قناعة تامة أنّ الدراسات التوراتية والإنجيلية لا بد أن تحظى بحظ وافر من الاهتمام في كليات الدعوة في العالم الإسلامي، وفي أقسام الدراسات القرآنية لطلبة الدراسات العليا.

وبعيدًا عن الدراسات القرآنية، بإمكاننا أن نتحدث عن أهمية ربط العقائد ببعضها، وأثر النصرانية في الإلحاد، وعلاقة النسوية بالتراث الآبائي للكنيسة. والدارس للنسوية لا يستطيع أن يغفل أهمية التعمّق في دراسة ثقافة ما بعد الحداثة، والداروينية الاجتماعية.

وأنا هنا لا أدعو إلى الموسوعيّة التي يستوعب فيها الباحث كلّ معارف عصره، فتلك غاية ولّى زمانها، بل أدعو إلى أنّ يأخذ الباحث بنصيب جيّد من التخصّصات التي تتّصل ببعضها بصورة قويّة في تشكيل الرؤى الكونية المخاصمة للإسلام، مع التأكيد أنّ الاهتمام بالردّ على الملاحدة لا يقتصر على مناقشة دلالة الوجود على واجب الوجود، بل يتجاوز ذلك بصورة كبيرة؛ إذ إنّ عامة مباحثه في العالم العربي تتعلّق بالنبوّة، والقرآن، والسيرة، والحديث، والشريعة، والفقه.. فخصومة الإلحاد العربي مع النبوة أعظم من خصومته مع الإيمان بالله!

• في ظل هذا الإنتاج المتنوع -نسأل الله أن يكون علماً نافعاً خالصاً لوجهه الكريم- سيكون السؤال تلقائياً: علام يعمل الآن د. عامري؟ وماذا قد ينتظر منه القراء في القريب العاجل؟

أسأل الله السداد والإخلاص.. في سلسلة “نقد النصرانية” أقوم الآن بتبييض كتاب عن «قانون العهد الجديد» «The canon of the New Testament»، وموضوعه متعلّق بأخطر أبواب نقد الأسفار (الكتب) المقدسة للكنيسة، وهو أمر انتقاء أسفارٍ غير ربانيّة، ونسبتها إلى الوحي، وإلزام النصارى بتصديق خبرها، والتزام أمرها، والانتهاء عند نهيها. وفي حدود علمي، هذا أوّل كتاب في المكتبة العربية الإسلامية أُفرد لهذا الموضوع. وهو يناقش إشكالية القانون في ضوء آخر ما انتهت إليه الأبحاث النقدية الغربية.

كما أعمل أيضًا على كتاب-غير موسّع- حول Universalism أي فتنة “الخلاص الكوني” التي غزت المجتمعات الغربية واخترقت الساحة العربية، والتي تزعم أنّ النجاة يوم القيامة مبذولة لجميع أهل العقائد، وأنّ التوحيد والإيمان بالرسالة الخاتمة ليسا شرط النجاة. وهي فتنة كبرى، تقع داخلها فتنة ما يُعرف بالإبراهيمية. كما أعكف على ترجمة مناظرةٍ لبابا الفاتيكان السابق -أيّام كان كاردينالًا- مع أشهر ملاحدة إيطاليا، مع تعليق نقدي على المناظرة.

وآخر المشاريع العاجلة هذه السنة، إتمام كتاب «التيارات النسوية الغربية، حقيقتها، وآثارها» الذي بدأت فيه السنة الماضية. وسأستمر بعده بإذن الله -في السنوات القريبة القادمة- في السلسلة نفسها: «مذاهب فكرية معاصرة»، لدراسة أهم المذاهب المصادمة للإسلام اليوم: النسبية، والإنسانوية، والليبرالية.. في كتب مفردة لكل منها على حدة، إن نسأ الله جلّ وعلا في الأجل، ورزقني بركة في الوقت -بفضله-.

المصدر مجلة أنصار النبي

من محمد إلهامي

باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية