من المفارقات المدهشة في تغيير أسماء المدن أن أشهر معركة في الحرب العالمية الثانية جرت في ستالينجراد حين شن الجيش النازي هجومه المفاجئ من جهة الجنوب، شمال البحر الأسود وبحر قزوين لتطويق روسيا وإنزال هزيمة بها خلال انشغالها بتركيز القوات على جبهة شرق أوروبا ومحور موسكو – كييف – برلين.

يضرب كل الناس المثل باسم هذه المدينة «ستالين جراد» ولكنك إذا فتحت أي أطلس حديث، رقمي أو ورقي، ستجد اسم المدينة قد محي تماما!

وإذا كنت ستبحث عن المدينة بطريقة آلية على خرائط جوجل فلن يعطيك البحث هذه المدينة بل سيدهشك أنه سيذهب بك لمدينة أخرى اسمها «فولجا جراد».

يتألف الاسم المندثر من مقطعين:

«ستالين» اسم زعيم الاتحاد السوفيتي زمن الحرب العالمية الثانية، بينما المقطع الثاني «جراد» هو تنويع على الكلمة الروسية «جورود» وتعني مدينة.

أي أن المدينة المندثرة كانت تحمل مسمى «مدينة ستالين» عزفا على اسم المدينة الشهيرة «لينين جراد».

إذا زرت روسيا اليوم، أو فتحت أطلس رقمي لن تجد «ستالين جراد» ولا «لينين جراد».

لقد كفر بهما الشعب الحديث، وأعاد إلى «لينينجراد» سابق اسمها وهو «سان بطرسبرغ»

وبطرس هنا أمره مختلط، هناك من يرى أنه بطرس الرسول، وهناك من يرى أنه بطرس الأكبر الذي أسس هذه المدينة قبل 300 سنة، وأعطى المدينة هذا الاسم تخليدا لنفسه.

وبعد أن نسب الشيوعيون المدينة إلى لينين لتصبح «لينينجراد» تخلص الجيل الجديد في العقود الثلاثة الأخيرة من أنبياء الشيوعية واستردوا اسمها السابق «سان بطرسبرغ».

أما المدينة التي نتحدث عنها «ستالينجراد» فقد تغير اسمها إلى «فولجا جراد».

الـ«فولجا» اسم أحد أهم أنهار العالم، يصب في بحر قزوين قادما من الشمال للجنوب عكس نهر النيل،

وقد وصلت السفارات العربية والإسلامية إلى سكان هذا النهر (البلغار) قبل نشأة دولة روسيا نفسها بعدة قرون، في فترة بين القرنين الثامن والتاسع الميلاديين.

ولكي نتذكر أهمية الفولجا، فعلنا نعود إلى عهد الصداقة المصرية السوفيتية في زمن عبد الناصر

والذي كان الزعماء السوفيت يبادلون مصر نخب الصداقة قائلين: «عاشت صداقة الفولجا والنيل».

الفولجا هو «نيل» روسيا.

وأهم مدن الاستقرار الروسي على هذا النهر هي: موسكو، قازان، فولجاجراد وأستراخان، والمدينة الأخيرة تقع عند مصب نهر الفولجا في بحر قزوين.

رغم اهتمام الروس بنهر الفولجا إلا أنهم لم يتمكنوا من ضم هذا الإقليم لسيادتهم السياسية بشكل كامل إلا منذ مطلع القرن 16

وذلك حينما بدأت روسيا ترث بالتدريج الإمبراطورية المغولية – التترية.

كان اسم المدينة منذ نشاتها في 1589 ولمدة ثلاثة قرون حتى قيام الشيوعية ينسب للقيصرية الروسية،

إذ كانت تحمل مسمى مدينة القيصر أو «تساريتسن?» قبل أن يقوم الشيوعيون بمنحها في 1925 اسم زعيم الاتحاد السوفيتي ستالين فأصبح اسمها «ستالينجراد».

وقد حفر هذا الاسم في تاريخ الإنسانية بحكم المعارك الدامية التي دارت في الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)

بسبب الغزو النازي لأراضي الاتحاد السوفيتي.

والتحمت القوتان في المدينة وكانت ملحمة بطولية تمكن فيها الجيش السوفيتي من صد الهجوم النازي بخسائر فادحة وبشرف مرموق،

وقد شيد لاحقا تمجيدا لهذا النصر النصب التذكاري الذي يجسد الوطن الأم وهي تنادي على الجهاد.

بعد موت ستالين قاد نيكيتا خورشوف حركة تصحيحية للقمع البوليسي والاضطهاد الداخلي

واستهل حملة لمحو آثار ستالين حتى تقرر في 1961 حذف اسم ستالين وإعادة تسمية المدينة،

لم يكن ممكنا استعادة اسم القيصرية القديم ولكنها نسبت إلى العلم الجغرافي الأصلي،

فأصبحت تعرف باسم فولجا جراد أي مدينة نهر الفولجا: نيل روسيا!

د. عاطف معتمد

من د. عاطف معتمد

أستاذ الجغرافيا الطبيعية بكلية الآداب جامعة القاهرة.