داء الاندماجية حقيقة اجتماعية تتكرر في كل الأزمنة، تتشكل في أزمنة الاستعمار بدافع القابلية للاستعمار وفق النظرية البنّابية، وتطفو على السطح في حقب الاستبداد تصممها «القابلية للاستبداد» على نحو ما نراه في ظل أنظمة ما بعد الاستقلال.

لقد كان الاندماجيون في زمن الاستعمار يتطلعون إلى أن يصبحوا فرنسيين بتمام المواطنة الفرنسية فتركوا الانتماء لوطنهم وتاريخهم، وراحوا يتوسلون بكل الأسباب للمحتلين ليمنحوهم الحقوق التي تُمنح للمعمرين وليخرجوا من مرتبة «الأهالي» في القانون الفرنسي. وبعد سنوات طويلة أدركوا بأن فرنسا تستعملهم لتشتيت الصف الوطني ولا تعطيهم شيئا، بل تحتقرهم، وحين انفجرت الثورة التحريرية التحق بعضهم بها وغسلوا تاريخهم بمسيرتهم النضالية الجديدة ودخلوا التاريخ بإنابتهم إلى الله واتباعهم بوصَلة الوطن. ولكن منهم من بقي يؤمن بفرنسا بالرغم من أنها لم تؤمن بهم مطلقا حتى وهي تخرج من الجزائر تجر أذيال الهزيمة.

إن هذا الذي حصل في الجزائر إبان الاستعمار حصل في كثير من البلدان التي احتُلت من قبل قوى أجنبية في تكرارٍ للتاريخ لا يتوقف، ذلك أن التاريخ يكرر نفسه رغمًا عنه إذ هو محكوم بسنن اجتماعية لا تتغير ولا تتبدل تحكم المجتمعات الإنسانية كلها، تماما كما هي القوانين الكونية التي تحكم الكون كله.

ومن هذه الظواهر السننية:

سنة «#القابلية_للاستبداد» التي تفسر حالة النخب التي تنزع للاندماج في الأنظمة الفاسدة المستبدة حيثما وُجدت، في كل مجتمع، بشكل متكرر كتكرار التاريخ نفسه. ومن هؤلاء الاندماجيين الجدد في عصرنا الحالي، ما نراه في بلادنا الجزائر وفي مختلف البلدان العربية، من نخب لا هم لها سوى الالتحاق بمنظومات الاستبداد الغالبة، بتِعلّة أخلاقية كاذبة أو خاطئة، بعضها منبعها السذاجة، وبعضها مصدرها خوف أو طمع النفسيات الضعيفة، وبعضها هو الفساد عينه.

يتصرف الاندماجيون تجاه الاستبداد كما يتصرف الاندماجيون تجاه الاحتلال. إنهم نخب من خارج النظام السياسي يشعرون بالتهميش والظلم، وربما القهر. ليس هؤلاء الاندماجيون من عصبة الحكم ولا من خاصته، وربما ليسو حتى من أعوانه، فيرغبون في الاندماج فيه لينالوا نفس الفرص والحقوق التي يتمتع بها من هم في صلب الحكم.

لا يؤمن هؤلاء الاندماجيون بأن النضال السياسي مجدي في كسب الحقوق، ويعتقدون أن الحاكمَ متغلبٌ إلى الأبد،

وأنه لا توجد فرص للتغيير مطلقا، وأن الأولى اغتنام الهوامش التي يتيحها المستبد والعمل على الارتقاء في المصالح وفق القواعد التي يضعها الاستبداد بنفسه.

غير أن السنن تتكرر في كل مرة، فلا يعطي الحاكم المستبد شيئا ذا بال لهؤلاء، كما لا يعطي المستعمر شيئا لـ«لأهالي».

ولكثرة هؤلاء الاندماجيين يخطف الحاكم المستبد، بين الحين والحين، واحدا منهم ليُلبِسه النياشين الرسمية في مراتب دنيا من الحكم حتى يُبقي غيرَه ممن هو على طبعه على الطمع الأبدي بأنه ربما هو كذلك سيصل!

إن خُلق الاستبداد هو ذات خلق الاستعمار في كل مكان وزمان،

يتصف صاحبُه بكل صفات التكبر والاستعلاء واحتقار من هم ليسو منه – خصوصا من يتزلف له – ويغتر بوسائل القوة والإكراه

حتى يتربّبَ فلا يرى في الكون غير نفسه، وتكون النتيجة أن يُغَلَّف على عقله،

حتى يصبح غبيا في أحكامه وتصوراته، مهما كانت شهاداته وتراكم تجاربه،

فلا يرى حقا غير ما يراه هو حقا، وحين يعطي للاندماجيين ما يعطيهم ينظر إليهم بنظرة الاحتقار مهما اضطرته إكراهات استغلالهم لمدحهم وإطرائهم.

منهج الاندماجية

إن منهج الاندماجية منهج شائع في الساحة السياسية في كل البلاد العربية، ومنها المغرب والجزائر،

وهو منهج ابتلي به التيار الوطني أولا فدمَّر أحزابا وطنية عريقة وجعلها خِرقا يمسح بها المستبدون كل مساوئهم حتى انتهى دورها في الأمة،

كما ابتلي بها التيار العلماني إذ أسقط رموزَهم ومراجعهم في مهاوي الطفيلية والزبونية

حتى جعلهم أضحوكة في ما يزعمه هؤلاء بشأن ما ادعوه من بطولة زائفة في النضال من أجل الديموقراطية ومعارضة الحكام.

ثم جاء الدور على الإسلاميين فبرز منهم من تفنن في محاولات الاندماج في الاستبداد حتى صاروا سادة ورموزا في التزلف والانتهازية.

إن ما رأيناه من انهيارات قيمية وأخلاقية عند بعض رموز الحركة الإسلامية في المغرب مؤخرا هو شيء مما نقوله في هذا السياق عن الاندماجيين.

 لا نعمم ولا نلغي فضل أصحاب الفضل حينما يخطئون ونسأل الله أن يثبتنا جميعا فلا أحد يأمن على نفسه،

ولا نستهين بصعوبة المواجهة مع الاستبداد وتعقيداتها ومتطلباتها، غير أن النصيحة واجبة حتى لا يصبح الخطأ مصنعا لأخطاء على منواله.

التحشيد «بالنفس والمال»

وبخصوص الانهيارات التي وقعت في مسألة التحشيد «بالنفس والمال» للزحف على تندوف وإنكار وجود موريتانيا فإني لا أرى فيها -لفضاعتها- سوى الرغبة في نيل رضا الحاكم

من أجل الاندماج في نظامه، طمعا في شيء ما عنده، لا ندري ما هو، أو خوفا مما قد يعاقب به المستبدُ من يخالفه.

 يحاول أولئك الإسلاميون أن يغطوا على ضعفهم النفسي والفكري بتأصيلات شرعية مقاصدية فيلحقوا بالإسلام وبمشروع الاستنهاض الحضاري للأمة ضررا كبيرا،

من حيث سمعته وتوهجه الشعبي ووحدة العاملين له ومعنويات الساعين إليه، بل صاروا خطرا لفرط تعنتهم،

والإصرار على عدم الرجوع على أخطائهم نذر حرب وخطرا على وحدة الأمة ذاتها.

تجند النخب الاندماجية

ومن أغرب ما لوحظ في المحنة الأخيرة المتعلقة بخطأ الشيخ الريسوني -غفر الله له وأقال عثرته-

هو تجند النخب الاندماجية في البلدين للحديث عن الاستعداد للحرب

وكأننا نتحدث عن شعبين عدوين لا حرج أن تسيل دماؤهم في مواجهة مسلحة تدمرهم جميعا تماما وفق ما تقتضيه خطط الصهاينة والقوى الاستعمارية.

وما تلك المواقف المتبادلة – في حقيقة الأمر – إلا تزلفا للحاكم هنا وهناك.

كان بإمكان الريسوني أن يئد الفتنة التي صنعها بجملتين قصيرتين يقدم فيهما اعتذارا واضحا للجزائر وموريتانيا بدل التوسع في التبريرات

التي اختلق فيها كلاما جديدا، بعيدا عما قاله، نصا وروحا، بما يزيد في كسر مصداقيته ومكانته،

وبما يحوله من مشروع «رجل أمة» و«رجل مستقبل» إلى مشروع رجل لتجزئة الأمة،

ومشروع رجل قابع في التاريخ، لا ليستلهم من التاريخ حكمه وسننه،

بل ليغرق في خرائطه المتحولة وليعتز بسلطان ظالم اعتدى على جيرانه في القرن السابع عشر

بدل أن يسعى إلى وحدة مغاربية عصرية بالرضا والتعاون والتكامل.

إنني لا أجد غرابة في ما أبان عليه الشيخ الريسوني،

فقد رأيت رجالا مثله في بلادي وبلاد أخرى وهبهم الله من العلم والمكانة في نفوس الناس في بادئ أمرهم ما يجعل جاههم بين الناس أعلى من جاه الحكام والسلاطين،

ولكنهم أبوا إلا أن يكونوا من المتزلفين الباحثين عن رضا مسؤولين سياسيين أقل شأنا منهم،

لا خلاق لهم ولا نجاح في خدمة البلاد والعباد، فنزلت مراتبهم عند الخلق، بما يضر مشروعهم الإسلامي الحضاري،

لو لا أن الله غني عن العالمين يقيض لخدمة الإسلام غيرهم ممن هم أفضل وأعز وأكرم.

ونسأل الله أن يقيل عثراتنا جميعا، وأن يستخدمنا دوما، ولا يستبدلنا أبدا.

غير أنني والله لقد حزنت كثيرا، لهذه السقطة وما تبعها من إصرار،

كما يحزن كل مؤمن يعرف حجم البلاء المتعلق بكسر المرجعيات وسقوط قيمة العلماء في الأمة.

كان من العلماء المجدين 

لا سيما وأن الشيخ الريسوني كان من العلماء المجدين في العلم الواعدين في تجديد المرجعية الشرعية في الأمة،

لو لم يصر ويستكبر فلم يعتذر، أو على الأقل لم يبرر،

حتى لأنه جعل سبب استقالته من رئاسة الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين أن يبقى حرا في آرائه.

وأي آراء هي تلك الآراء؟

إنه والله لمبرر مخيف يدل على أن الرجل سيبقى في صراع مع الخرائط الجغرافية المتضاربة البائدة، بدل السعي للوحدة والتقريب بين الإخوة.

أزمة منهج

إن الأزمة في حقيقة الأمر أزمة منهج قبل أن تكون أزمة أشخاص، إنها أزمة «الاندماجية الجديدة»

التي حلت في أوساط من كان يرجى منهم الصبر على مكاره التغيير والإصلاح في المجتمع ولبناء دول مؤهلة لصناعة النهضة.

أزمة منهج تجلت في ردود أفعال الإسلاميين التحشيدية بعبارات الحرب والاقتتال في الجزائر وفي المغرب كلاهما.

إنها أزمة منهج يتبعه هؤلاء النخب من الإسلاميين الذين باتوا حريصين على السلطة

والتقرب من السلطة أكثر من حرصهم على الدولة وتشييد الدولة،

منهج يضيّع الدول التي يريدون حمايتها كما يدّعون، أو التمكين لمشروعهم داخلها كما يقصدون،

أو بالحرص على السلطة لأنفسهم لا لمشروعهم بالنسبة لبعضهم وفق ما يضمرون.

إن هؤلاء جميعا، مهما كانت دوافعهم، نبيلة أو سقيمة، بيّنة أو دفينة، قد أفسد مشروعَهم حرصُهم على السلطة وإرضاءُ السلطان،

وهم في ذلك لا يعرفون الفرق الذي شرحه ابن خلدون بين «مفهوم الملك» الذي هو عنده الدولة،

وكان في زمنه يؤخذ بالغلبة، و«مفهوم الرئاسة» الذي هو عنده مجرد وظيفة.

أي أنهم لا يفرقون بين مفهوم الجاه الزائل والمنصب العابر الذي تمنح الأنظمةُ بعضَ فتاته

ومفهوم الحكم المكين الذي إن صلح صلح البلد كله و لا شرعية له في العصر الحديث إلا بالاختيار الحر للشعب.

إن حرص الاندماجيين الجدد على السلطة، دون رؤية ولا شراكة ولا تأثير فيها نحو نهضة بلدهم وكرامة الإنسان فيه،

من شأنه أن يعطل الفكرة ويضيّع المشروع ويضر بالبلد ويمعن في تكبيل الحريات،

ولن يرفع التعطيلُ الذي يتسببون فيه ما لم تتحقق الكفاية بغيرهم، كما ونوعا.

وحتى هؤلاء الاندماجيون الجدد من «المصلحين الإسلاميين» ستخيب آمالهم في حسن ظنهم في الاستبداد في آخر المطاف،

كما خابت آمال الاندماجيين من الوطنيين في حسن ظنهم بالاستعمار، فمنهم من يعود إلى رشده، كحال فرحات عباس،

ومنهم من يستمر في الخضوع للاستبداد حتى تسجل أسماؤهم في قوائم الخزي في التاريخ، كأؤلئك الذين استمروا في الانهيار مع الاستعمار.

د. عبد الرزاق مقري

من د. عبد الرزاق مقري

سياسي ومفكر جزائري، رئيس حركة مجتمع السلم، الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة.