مما لا ريب فيه أن التوكل على الله – عز وجل – من أنواع العبادة جعله الله شرطا في الإيمان كما وصف المؤمنين أنهم أهله إذ قال تعالى:”وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”(التوبة: 51)، وقال سبحانه:”وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”(المائدة: 23)

 

وقبل أن أبدأ ببيان الأدلة الشرعية على أن التوكل على الله خلق النبيين والمرسلين، يجدر بنا الإشارة إلى بيان حقيقة التوكل:

 

قال الشيخ أبو بكر الجزائري – رحمه الله – في كتابه”عقيدة المؤمن”: التوكل هو الاستسلام لله تعالى، وتفويض الأمر إليه، اعتمادا ووثوقا به، أمر الله تعالى به في غير آية من كتابه، وجعله آية الإيمان وعلامته فقال تعالى:”وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا”(الأحزاب: 3)، وقال سبحانه:”وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ”(المائدة: 23)، ووعد بالكفاية للمتوكلين عليه في قوله:”وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ”( الطلاق: 3)، وخص التوكل به فقال:”وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ”(إبراهيم: 12)، فالتوكل إذا عبادة قلبية: وهو سكون القلب إلى كفاية الله تعالى، وتفويض الأمور إلى الله تعالى لكفايته، والاعتماد عليه تعالى لعلمه وقدرته.. أ. هـ (عقيدة المؤمن للعلامة أبي بكر الجزائري ص 89: 90).

 

فالتوكل عند المسلم عمل وأمل، مع هدوء قلب وطمأنينة نفس، واعتقاد جازم أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.. (منهاج المسلم للعلامة أبي بكر الجزائري ص: 149).

 

وقال صاحب كتاب”مختصر منهاج القاصدين”: اعلم أن التوكل مأخوذ من الوكالة يقال: وكَّلَ فلان أمره إلى فلان، أي فوض أمره إليه، واعتمد فيه عليه.

 

فالتوكل عبارة عن اعتماد القلب على الموكل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء: الشفقة، والقوة، والهداية. فإذا عرفت هذا، فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة والرحمة، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه، فإن كنت لا تجد هذه الحالة من نفسك، فسببه أحد أمرين:

 

إما ضعف اليقين بأحد هذه الخصال، وإما ضعف القلب باستيلاء الجبن عليه، وانزعاجه الأوهام الغالبة بسبب عليه، فإن القلب قد ينزعج ببقاء الوهم وطاعته له من غير نقصان في اليقين فإنه من كان يتناول عسلا فشبه بين يديه بالعذرة، ربما نفر طبعه منه، وتعذر عليه تناوله.

ولو كلف العاقل أن يبيت مع الميت في قبره أو فراش أو بيت نفر طبعه من ذلك، وإن كان متيقنا كونا ميتا جمادا في الحال، ولا ينفر طبعه عن سائر الجمادات، وذلك جبن في القلب، وهو نوع ضعف قلَّما يخلو الإنسان منه، وقد يقوى ذلك حتى يصير مرضا، حتى يخاف أن يبيت وحده مع غلق الباب وإحكامه..

 

فإذا لا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعا، فإذا انكشف لك معنى التوكل، وعلمت الحالة التي تسمى توكلا، فاعلم أن تلك الحالة لها في القوة والضعف ثلاث درجات:

 

الأولى: ما ذكرناه، وهو يكن حاله في حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل.

 

الدرجة الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه، فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه: يا أماه.

 

فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه فيكون متوكلا حقا.

 

والفرق بين هذا وبين الأول أن هذا متوكل قد فنى في توكله عن توكله إذ لا يلتفت إلى غير المتوكل عليه، ولا مجال في قلبه لغيره، وأما الأول فهو متوكل بالتكليف والكسب، وليس فانيا عن توكله، بل له التفات إليه، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده.

 

الدرجة الثالثة: وهي أعلى منها، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتا، وهذا يفارق الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه ويصيح ويتعلق بذيلها.

 

وهذه الأحوال توجد في الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولا سيما المقام الثالث. (مختصر منهاج القاصدين ص 344، 345 للإمام أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي – دار الهجرة – ط الأولى 1415 هـ- 1995 م).

 

التوكل على الله خلق النبيين:

 

من أدلة الشرع على أن التوكل على الله تعالى خُلق النبيين والمرسلين:

 

أولا: قول موسى – عليه السلام – لقومه:”وَقَالَ مُوسَىٰ يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ”يونس: 84.

 

قال الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره لهذه الآية: وقال موسى موصيا لقومه بالصبر، ومذكرا لهم ما يستعينون به على ذلك فقال:”يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ”فقوموا بوظيفة الإيمان بالله”فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ”أي: اعتمدوا عليه والجأوا إليه واستنصره.. أ. هـ (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص: 389).

 

ثانيا: قال تعالى عن رسله إذ قالوا لقومهم:”قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ”سورة إبراهيم: 11، 12.

 

قال السعدي – رحمه الله في تفسيره لقول الله تعالى”وعلى الله”لا على غيره”فليتوكل المؤمنون”فيعتمدون عليه في جلب مصالحهم، ودفعه مضارهم، لعلمهم بتمام كفايته، وكمال قدرته، وعميم إحسانه، ويثقون به في تيسير ذلك، وبحسب ما معهم من الإيمان يكون توكلهم.

فعلم بهذا: وجوب التوكل، وأنه من لوازم الإيمان، ومن العبادات الكبار التي يحبها الله ويرضاها، لتوقف سائر العبادات عليه، وقول الله تعالى:”وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ”، أي: أي شيء يمنعنا من التوكل على الله، والحال أننا على الحق والهدى، ومن كان على الحق والهدى فإن هداه يوجب له تمام التوكل، واعلم أن الرسل – عليهم الصلاة والسلام – توكلهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب، وهو التوكل على الله، في إقامة دينه ونصره، وهداية عبيده، و إزالة الضلال عنهم، وهذا أكمل ما يكون من التوكل.. أ. هـ (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 448،449).

 

ثالثا: قال تعالى عن نبيه هود – عليه السلام -:”إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم ۚ مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ”سورة هود: 56.

 

قال السعدي – رحمه الله -:”إني توكلت على الله”أي: اعتمدت في أمري كله على الله،”ربي وربكم”أي: هو خالق الجميع، ومدبرنا وإياكم، وهو الذي ربانا”ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها”فلا تتحرك ولا تسكن إلا بإذنه، فلو اجتمعتم جميعا على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم عليّ لم تقدروا على ذلك، فإن سلطكم فلحكمة أرادها. أ.هـ (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص: 404).

 

رابعا: قال تعالى عن نبيه نوح – عليه السلام -:”وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنظِرُونِ”سورة يونس: 71.

 

قال السعدي – رحمه الله – في تفسيره: أي إن كان مقامي عندكم وتذكيري إياكم ما ينفعكم بآيات الله الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق، فعلى الله توكلت أي: اعتمدت على الله في دفع كل شر يُراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي وعُدّتي، وأنتم فأتوا بما قدرتم عليه من أنواع العَدَد و العُدَد.. أ. هـ (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 387).

 

خامسا: قال الله تعالى عن نبينا محمد –عليه الصلاة والسلام -:”فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ”سورة النمل: 79.، وقال تعالى:”رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا”سورة المزمل: 9.، وقال تعالى:”فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”سورة التوبة: 129.

 

قال الشيخ السعدي – رحمه الله – في تفسيره للآية الأولى”فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۖ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ”: أي: اعتمد على ربك في جلب المصالح، ودفع المضار، وفي تبليغ الرسالة، وإقامة الدين، وجهاد الأعداء.. أ.هـ (تيسير الكريم الرحمن للسعدي ص 662.

 

سادسا: قال الله تعالى في مدح عباده المؤمنين:”إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”سورة الأنفال:2.

 

قال ابن كثير – رحمه الله في تفسيره: (وعلى ربهم يتوكلون) أي: لا يرجون سواه، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يلوذون إلا بجنابه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولا يرغبون إلا إليه، ويعلمون أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له، ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب؛ ولهذا قال سعيد بن جبير: التوكل على الله جماع الإيمان.. أ. هـ (تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير 2/ 272).

 

ثمرة التوكل:

يقول ابن رجب في”جامع العلوم والحكم”:”واعلم أن ثمرة التوكل: الرضا بالقدر، فمن وكل أموره إلى الله ورضي بما يقضيه له ويختاره، فقد حقق التوكل، ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما يفسرون التوكل على الله بالرضا.

 

وقال ابن أبي الدنيا: بلغني عن بعض الحكماء قال: التوكل على ثلاث درجات:

 

أولها: ترك الشكاية.

 

الثانية: الرضا.

 

والثالثة: المحبة بترك الشكاية ودرجة الصبر والرضا وسكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من الأولى، والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به، فالأولى: للزاهدين، والثانية: للصادقين، والثالثة: للمرسلين.. أ.هـ”(إيقاظ الهمم المنتقى من جامع العلوم والحكم، سليم الهلالي، ص 635).

 

وقال أيضا: المتوكل على الله إن صبر على يقدره الله له من الرزق أو غيره فهو صابر، وإن رضي بما يقدر له وقوعه فهو الراضي، وإن لم يكن له اختيار بالكلية، ولا رضا إلا فيما يقدر له فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت وما لي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر… أ.هـ (المرجع السابق ص 635).

 

وهذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،

من د. عصام مشاحيت

عضو الجمعية العلمية السعودية لعلوم العقيدة