فاتن فاروق عبد المنعم

كما ذكرنا آنفا فإن الحداثة نشأت على يد جملة من شعراء الشوام المسيحيين والذين اعترفوا بأنفسهم “بأنهم ما كانوا ليقفوا مكتوفي الأيدي أمام الأدب العربي والذي هو الوجه الآخر للإسلام”

 

وسرعان ما تلقف باقي المسيحيين المصريين والعرب ليتبنوا ذات الدعوة فضلا عما ضل وتنكب من أبناء المسلمين والذين أصبحوا أكثر تعصبًا من المؤسسين.

 

واقترنت الحداثة بالدعوة إلى “الشرق أوسطية المتوسطية” في مقابل الحضارة العربية الإسلامية لمحو الأخيرة والارتباط بالحضارة الأوروبية بدعوى الحداثة والتمدن، وجاهدوا واجتهدوا لإثبات أصول حضارة سكان هذه المنطقة بكونها أوروبية وأن العودة إليها ليست إلا عودة إلا الجذور وهو فعل ينضح بالمجاهرة بنفي الانتساب إلى العروبة والإسلام جملة وتفصيلا واتخذوا إلى ذلك كل سبيل يعبد لهم الطريق حتى يخال إلينا أنهم يعبثون بالهوية في مواجهة ضمنية مع العروبة والإسلام ونسب كل سوءة ونقيصة لهذا النسب الذي أوردنا مورد التهلكة حسب زعمهم.

 

وكما انتشرت المفردات التوراتية التلمودية على الأدب العربي الحديث انتشرت أيضا المفردات والرموز المسيحية ومضمون اعتقادها من الصلب والفداء والخلاص ليكون بابا خلفيا لغرض في نفوسهم بشكل فاضح ودون وخجل في مقابل ندرة الرموز والمفردات الإسلامية لتجفيف الأخيرة في النفوس حتى يصغر ويستصغر معناها فلا يصبح لها المهابة والقدسية التي من المفترض أن تكون وبذلك تحققت رغبة المؤسسين الذين جاهدوا لأجل هذه اللحظة يعاضدهم في ذلك كل من يصف نفسه بالعلماني والليبرالي من أبناء المسلمين.

 

وصف أدونيس الاتجاه الغيبي التي تتبناه مجلة شعر “بالحساسية الميتافيزيقية” وجعل هذا الاتجاه موصولا باليونان متمثلا في سيزيف، والمسيحيين متمثلا في المسيح عليه السلام مؤكدا أن الحساسية الميتافيزيقية هي الخاصية الرئيسية في نتاجها الشعري الحديث، فالكائن العربي المعاصر هو في شعرنا كائن ميتافيزيقي، يغوص إلى عمق الأعماق ويتضامن مع الآخر، ويحيا مصلوبا فوق الخيط الذي يصل سيزيف والمسيح بين اليأس ويقين الأمل.

 

أما محمد جمال باروت فقد وصف الاتجاه الذي تتبناه مجلة شعر متمثلا في الأطروحة المتوسطية التي بررت باسمها الالتحاق بالغرب، من خلال تنظيرات”أنطون سعادة” فيمكن القول بأن اثنين من أبرز المساهمين في حركتها الشعرية هما:

 

رينيه حبشي الحداثي المصري المسيحي الوجودي الداع إلى المتوسطية في مقابل الحضارة الإسلامية العربية.

 

والآخر هو هنري القيم الحداثي المصري المسيحي الوجودي الداعي إلى إحياء القبطية وإعادة أمجادها مقابل الحضارة العربية الإسلامية.

 

وقد طرحا المتوسطية من منظور تأثيري آخر يرجع إلى تأثير هذه الأطروحة في نفوس المثقفين الليبراليين الأقباط المصريين،والذين كانت القبطية انتماء قومي في ذاته.

 

“لاحظ اقتناص القبطية لتصبح صفة تطلق على المسيحيين وحدهم بينما هي أصل كل المصريين أيا كان دينه ولكن هذا الطرد الناعم لإثبات أن المسلمين ليسوا مصريين”

 

إن مؤسسات ثقافية إحيائية قبطية قد تبنت هذه الأطروحة خصوصا جمعية الآثار القبطية التي تأسست بالقاهرة عام 1934 هدفها تشجيع دراسة الحضارة المصرية في العصر المسيحي القبطي ولها مكتبة وتصدر مجلة سنوية، وكتبا في الآثار والفنون القبطية وبالطبع كان الدكتور رينيه حبشي من الملتفين حول الندوات والجمعيات التي تدعو لثقافة البحر الأبيض المتوسط وخصوصا الندوة اللبنانية التي كان يديرها ميشيل أسمر أحد الدعاة لهذه الثقافة.

 

في دراسة موجزة لجمال باروت عن التجربة الشعرية ليوسف الخال بما فيها من رموز وثنية والآلهة الكنعنانية وأزمنة البعل وعشتاروت وأدونيس يؤكد أنه لا يبحث في التيه عن الفينيقية فحسب بل يمتد في تلمس حضاري إلى مستويات أخرى فيقول:

 

هذا المستوى الحضاري الذي يبحث في الشعر عن تجربة حضارية، يضمر مسيحية عميقة لها مستوياتها الميتافيزيقية الصرفة .. لا يرى لسكان المفازة سوى صليب الفادي طريقا واحدا للخلاص، يظهر الفادي في قصيدة “البئر المهجورة” كبئر يفيض ماؤها بالخير، يندمج في كل مضمر تموز بالمسيح، الفضاء الوثني بالفضاء المسيحي.

 

في مقطع بعنوان “صلاة في الهيكل” يقول الخال:

 

الحجر ينطق، الحجر خبزا، يصير نبيذا

يقول باروت: فالحجر إذ يثير في سياق النص مناخا وثنيا، فإن انزياحه الشعري إلى خبز ونبيذ يوحي بمناخ مسيحي تميز به الخال، تعدد للحجر معان دلالية متعددة.

 

قد يقول قائل أنه مسيحي يتحدث من نبعه وهنا يبرز السؤال لماذا تفشت هذه الرموز والتوصيفات لدي المسلمين الذين أركسوا في الفتن فصاروا يتناقلون رموز أي ملة من أي اتجاه ويتبنون وجهات نظرهم وكأنهم المعين الذي لا ينضب والواجب عليهم تناقله في سلاسة وهذا ليس وليد الصدفة فإن الصحافة العربية والمجامع والمؤسسات الأدبية في العالم العربي بعامة أنشأت على أيديهم ليبثوا من خلالها عقيدتهم وفكرهم لينتشر ويتفشى حتى ولو لم يكن الكاتب مسيحي، فإن المهم هو إزاحة الفكر الإسلامي ورموزه من مجامع الفكر والثقافة والفن والأدب بعامة أيا كان جنسه، وعود على بدء فإن انتشار العلمانية والليبرالية يصبح من قبيل كونها نظم سياسية بينما في الحقيقية أنها لم تكن في بلادنا سوى باب خلفي آخر لمناهضة الإسلام، لدرجة أن كلمة علمانية ليست إلا مفردة عربية بحتة(من بنات أفكارهم) بينما الترجمة الصحيحة لها هي “لا دينية” للتدليس والطمس على العقول ليفسدوا على المسلمين دينهم ليمرروا فكرا بعينه.

 

يزعم الحداثيون “أنهم يعتبرون جميع الديانات السماوية جزءا من التراث الروحي للبشرية جمعاء”

 

إنه التملق للآخر طمعا في العسل والحنطة التي بين يديه فأي هزيمة وذل ألقوا بأنفسهم فيه.

 

على رأس الحداثيين الذين هندسوا هذا الفكر عربيا جملة من الشوام المسيحيين الذين أنشأوا مجلة شعر ومجلة الآداب البيروتية وإن كان توجه الأخيرة وجودي حيث كانوا يبثون الفكر الوجودي من خلال ترجمات جملة من أعمال رواد هذا الفكر على رأسهم سارتر ومن بين التفاصيل (أخبار سارتر وسيمون حتى باتوا يقدسونهما كما يقدسون تموز وعشتار) الذي تسرب إلى النخبة السياسية والثقافية آنذاك في الخمسينات والستينات وبالطبع هذه الفئة الغارقة في الاستغراب أصلا والمصابة برقة في الدين كان لديها الجاهزية لاستقبال النفايات الفكرية أيا كانت فاستبدلوا الثريد بالغث.

 

ملأ الأدباء المسيحيون أعمالهم برموزهم الدينية والاستشهاد من العهدين القديم والحديث ولا يلاموا في ذلك فهذه خصوصيتهم الدينية يعبرون عنها كيفما يشاءون ولكن لماذا امتلأت أعمال الأدباء المسلمين بنفس والرموز والاستشهادات من عقائد هم يعلمون يقينا أنها حرفت.

 

(إن استشهد الكاتب بآيات من الإنجيل والتوراة قال النقاد الميامين مشيدين بفعله: واستشهد بنصوص من الكتب المقدسة وإن استشهد بآيات من القرآن فقط انهالوا عليه باللوم والتقريع، فهي أسلمة وتقريرية و…………..!!!)

 

وأبرز مثال على تطويع الأدب لمعتقد بعينه أعمال الشاعر اللبناني المسيحي يوسف الخال:

 

دعا إلى الانفتاح والثقافة العالمية، والتواصل الثقافي، وتجاوز السائد، والقفز على التراث، وترك التقاليد وإغلاق صفحة الماضي، ولكنه هو نفسه لم يفعل ذلك فقد كانت دعوة شفاهية من جانبه وأضرابه الذين لم يلتزموا بها ولكن الكتاب المسلمين التزموا بها في غلو واضح.

 

لم يستطع الخال وأضرابه القفز على تراثهم الديني متجاوزينه كما ادعوا بل وظفوا الأدب لخدمة دينهم، وهو القائل صراحة:

 

إنني شاعر مسيحي، المسيحية جزء من تراثي، إن لم تكن في جوهره وصميمه، والمسيحية مرتبطة ارتباطا كيانا عميقا مع التراث الذي سبق التاريخ العربي في هذه البقعة من الأرض، حتى إن تموز وما يعنيه وهذا موجود في شعري هو جزء من أسطورة قريبة من المسيحية، وربما كان المسيح صورة جديدة لها، فهناك شبه كبير بين المسيح وتموز من حيث موته وبعثه، وأنا افتخر بهذا الواقع، لأنه دليل ساطع على أنني صادق في شعري، لا كالشعراء المسيحيين، منذ إبراهيم اليازجي وإلى اليوم، الذين كانوا يكبتون مسيحيتهم، ويظهرون بمظهر الشاعر غير المسيحي، من قبيل المسايرة والدعاية والممالأة، إنني اعتقد أن هذا محك صدق الشعراء الحدايثين اليوم، إن الشاعر المسيحي الذي يرتبط بتراثه المسيحي هو شاعر مسيحي أصيل، وستذكر الأعوام القادمة أن توفيق صائغ هو أحد هؤلاء، إلى حد ما جبرا إبراهيم جبرا، وكذلك خليل حاوي، هذه القضية أدركها عدد كبير منهم جبرا إبراهيم جبرا، وأدونيس، وغالي شكري، حتى أن غالي شكري اضطهد في مصر من أجل ما كتبه عني في مصر في مقال بعنوان “شاعر له قضية”

 

بالطبع اعتزازه بمسيحيته لا يضيرنا في شيء ولكن لماذا لم يتجاوز في شعره السائد في أروقة الكنائس وتجاوز تراثه الديني وإغلاق صفحة الماضي كما دعا آنفا؟ فهل هذا يحيلنا إلى كون الحداثة سراب لخداع المسلمين فقط وذرا للرماد في العيون وما الحداثة إلا نوع من التعمية عليهم لإشاعة العقائد المحرفة والوثنية والجاهلية تحت مسمى حداثة الأدب العربي الذي هو الوجه الآخر للإسلام؟

 

إنها نفس القضية التي من أجلها قام الغرب بالحروب الصليبية، ثم الاستشراق ثم حلف الأطلسي ثم يتلقف كهان الحداثة الراية منهم ليتحولوا إلى بيادق تغزوا الأدب العربي.

 

في كتاب أسئلة الشعر وفيه حوار مطول مع يوسف الخال فيه ما فيه من الأغلاط فضلا عن حقد دفين تجاه الإسلام وآله وهذا يخصه ولا يعنينا في شيء ولكن في معرض حواره مع المؤلف قال:

 

“كان أدباء حركة شعر ونقادها يرسخون حركة التوصيل الإنجيلية على أربع مراحل، أولا باستعارة الألفاظ الإنجيلية، ثانيا باستعارة أسلوب الترجمة الإنجيلية، ثالثا بإفراغ اللغة من مدلولاتها القديمة وشحنها بمدلولات إنجيلية، رابعا اتهام كل من يخالف ذلك بالتقعر والحذلقة”

 

(لا غرو كل من لا ينتهج منهج الحداثة الإنحيلية التوراتية يتهم بالتقعر والحذلقة، ولا تقلق أيها الحداثي الكبير فنحن المسلمون لدينا سلة مهملات تسع أعدادا إلى ما لا نهاية ولو كانوا مسلمين أبا عن جد ومدفوع بآلة إعلامية جبارة وحوله من البروباجندة ما لا يخطر ببال ولو نال أرفع الجوائز، ومالا يريد الحداثيون الإنجليون التوراتيون تصديقه هو أننا نشكل مشهدا أدبيا وثقافيا جديدا إستنادا لأدبنا العربي الأصيل مع استبعاد الحداثة التوراتية الإنجيلية بالأربعة روافد الذي ذكرهم الخال ولن نترك لكم الوجه الآخر للإسلام “الأدب العربي”)

 

وقبل يوسف الخال فقد مرت حركة التوصيل الإنجيلية عبر العلمنة وذلك عبر تجديد دم المعاجم، بعد استغلاق مدلولات المعاجم القديمة، وتعذر مراجعتها، ولقد خطا معجم المنجد مسافة طويلة في هذا الحقل، مما أضاف على حركة الأداء طغيانا خارجيا آخر.

 

وأضاف المؤلف نفسه في الهامش (للتيسير حذف المنجد في طبعته الأولى الشواهد الشعرية المعقدة، وللعلمنة حذف الشواهد القرآنية والحديثية، وبقيت مدلولات الألفاظ في معظم مواد المعجم في طبعته الأولى، محافظة على ذاكرتها الدلالية، مع شيء من التيسير والإضافات، ثم جاءت طبعات المنجد المتوالية، مهدت جسر العلمنة، وفتحت لمواد المعجم العربي، تلك الدلالات الإنجيلية الصرفة.

 

وفي مقابلة لجهاد فاضل مع يوسف الخال أكد الخال أن توفيق صايغ ثم خليل حاوي ثم السياب ثم صلاح عبد الصبور يحتلون أهمية كبرى بسبب:

 

أن الأربعة دقوا بهذه المواضيع الكبرى وهي الوجودية، وما وراء الطبيعة والوجود والإنسان، والله والخلق والصلب والقيامة، خذ الحلاج عند عبد الصبور، لقد أراد أن يخلق مسيحا في التراث الإسلامي، على الطريقة التي لدينا نحن المسيحيين، كان الحلاج عنده “مسيح” الإسلام.

 

ثم تحدث عن الرمز الوثني الفينيقي تموز فيرى أن استخدام هذه الأسطورة هو من أجل معاني إنجيلية مسيحية حيث قال (تمثل هذه الأسطورة السامية عملية الصلب والقيامة عند المسيح(

 

وقد قال أحد النقاد الحداثيين:

 

إن التراث الذي يؤمن به شعراء “حركة شعر” هو تراث المراحل الوثنية والمسيحية التي مرت على المشرق العربي بل الهلال الخصيب على وجه التحديد، وهم يفصلون هذا التراث عن التراث العربي فصلا تعسفيا مقصودا وكأنه ليس منه وهذا هو الآخر واضح في أشعارهم كما هو واضح في كتاباتهم النثرية.

 

في مقال بعنوان “الشاعر الأول” يقول توفيق صائغ:

 

“عودوا إلى ما في التوراة من قصص أفعمت روعة فنية خالدة أو أقرأوا الأناجيل ومافيها من قصص حلوة وسرد للوقائع موفق وترجمة لحياة امتازت من التراجم كافة، عودوا لما فيها من أمثال قصصية وتعاليم مصورة ملونة، أضحت المثال الأول لهذا الضرب من الأدب في كل العصور”

 

فضلا عن إسهابه في وصف عشيقته “كاي” وطريقتها في اصطياد الرجال وأضفى عليها صفات دينية كأنها تنثر الفضائل على سكان الأرض، أما ديوانه فقد امتلأ بعقيدة الثالوث والصلب والصليب والفداء والخلاص والمعمودية وتابوت العهد والدير والكنيسة والقديس فلماذا لم يتجاوز السائد في أروقة الكنائس وتجاوز تراثه وتقاليده الدينية كما في سابق دعواهم أم أن المعني هو التراث الإسلامي والتقاليد الإسلامية فقط.

 

في مقطع بعنوان “أغنيات لا حب” يقول:

 

مسيحي الدفين، انهضن/ مزق الأكفان/ لون الوجنتين/ واتركن ديار الصقيع/ وحنقا مسيحي عليك/ لماذا هرعت للغناء/ وكنت تخطو نحو محبيك وئيدا/ وعانقت الصليب/ عراة من غير معدمين/ رفعنا رايتك/ وختمتنا بشارتك/ مسيحي الدفين انهضن/ مسيحي الشريد، عد/ ناديتني قدما، فجئتك/ بلا تردد.

ثم ينهيها بالخرافة اليهودية بأن الله تعالى استراح يوم السبت تعالى الله عما يقولون.

 

النموذج الثالث من الداعين إلى الحداثة هو جبرا إبراهيم جبرا وهو الذي تربى في الكنيسة ومدارس الإرساليات التبشيرية ثم استقى المذاهب المادية الغربية القشيبة ولكنه يؤكد أنه لم ينسى وصايا “أبيه” وهو الراهب الذي تربى بين يديه، يقول في مقطوعة كنسية الصورة والمعنى (كما السابقين يدعو لتجاوز السائد والتراث والتقاليد القديمة بينما هو معجون بها وينطق ويكتب بمفرداتها وفكرها):

تحت عنوان (مار جيروم في بيت لحم)

في القبو الفاغر شدقيه على خد السماء/ جلست مليئا بالأيام والأسفار/ عبر أروقة روما وبيزنطة/وقد هجعت بين جنبيك أخيرا/ رياح فلسفات أثينا/ وانطاكيا وبيروت/ وأنت في القبو/ على مدى خطوتين من مذود/ ولد فيه للدنيا عصر جديد/ سنة إثر سنة في قبوك بين الكتب/ وعلى قدميك تراب قدسه دم المصلوب/ وبعض شذى من زهور سقيت/ في الليل أغاني الملائكة…./ كسرة خبز من بلدة الخبز تكفيك/وكوز ماء من عين، لعل الناصري/ غسل وجهه ذات يوم قائظ بدمعها/ يوما بعد يوم سمعت التراتيل/ في الوادي الخصيب، وهاهي ذي/لما تزل تملأ القبور المغارة قرنا بعد قرن…/ انطلاقة الهنيهة إلى الأزل/ ذلك صوتك الدافق في القبوالعتيق/ غضوبا عامرا بحبه، مرددا/قصة فداء إله للبشر.

 

النص مكتوب بروح كنسية معتقة موغلة في التراث الديني والكنسي كأنه شرط الكتابة لديه على عكس الادعاء والدعوة التي يدعو إليها فضلا عن مغازلة الحضارة الرومانية باعتبارها الأساس والجذور والمنطلق الواجب العودة إليه والانطلاق منه مرة أخرى فحسب زعمهم أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة المركزية التي تقود قاطرة الإنسانية قديما وحديثا وإنكار أي دور للإسلام في مجمل الحضارة الإنسانية وهو الإلحاح الكذوب الذي يحرصون عليه دائما وأبدا ودون ذلك يعد تخلف ورجعية وارتداد وهو ما صرح به كل السابقين عليه واللاحقين والتابعين والموالين.

 

حتى عندما أراد أن يعبر عن مذبحة دير ياسين فإنه تناولها تناول بمفردات مسيحية كنسية بحتة ليتلقف الشيء نفسه من المسحوق داخلهم من المسلمين فتمتلئ نصوصهم “الحداثية” بالمفردات التوراتية الإنجيلية والنماذج التي تشي بذلك كثيرة عصية على الإحصاء:

 

يقول جبرا:

 

أجفت العناقيد من حولها/واحترق القمح واندلقت/ قراب الزيت على بديد الحجارة؟/ وعليها صلب عيسى من جديد.

 

وفي وصفه لنفسه يقول:

 

عشت مع المسيح/ ومت معه وبعثت/ إن الحب انتضت وردة سيفا/ مسيح على الجبل/ من غير موعظة.

 

وفي مؤازرة المنصرين وحثهم على الاستمرار يقول:

 

ألهذا رأينا الرؤى/ ورضينا بشفائها، إيمانا بها؟/ ألهذا حملنا الصليب من أفق إلى أفق/ مؤمنين أن بعد الصلب، القيامة؟

 

ولم تكن أسماء مثل سلامة موسى، لويس عوض، غالي شكري، إدوارد الخراط بأقل من الرابطة القلمية فعلا وقولا، بل أنهم يصرحون “ما كان لهم أن يقفوا موقف المتفرج تجاه الثقافة والأدب العربي” وهذا بإيجاز شديد لمجمل تصريحاتهم التي يجاهرون بها، وكل هذا طبيعي بالنسبة إليهم، فالانحياز لدينهم وتوظيف الأدب المشتغلين به لخدمته أمر طبيعي ولكن ماذا عن من دون في بطاقته الهوية الدينية “مسلم” الذين استطرقوا وتلقفوا الدعوة وتبنوها أكثر منهم لينالوا رضا من لا يرضون عنهم إلا إذا تخلوا عن دينهم ويقال عنهم عصريين وحداثيين؟ هل من الممكن أن نصف موقفهم هذا غير الارتكاس الذين أوغلوا فيه؟

فاتن فاروق عبد المنعم

من فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر