يزعم اليهود دومًا أنَّ الأحقية لهم في أرض فلسطين؛ وذلك بناءً على أنَّ بني إسرائيل كانوا يسكنون الأرض المقدسة، بالإضافة إلى قيام مملكة داود وسليمان عليهما السلام فيها.

فهل هذا حق؟

إنَّ هذا الزعم مليٌ بالمغالطات، وهو باطلٌ من وجوهٍ كثيرة، أستعرض في هذه المقالة الموجزة خمسةً منها:

أولًا: إنَّ نبيَّ الله إبراهيم عليه السلام ليس هو الساكن الأول لأرض فلسطين ليجعل مالكًا لها؛ بل إنه مسبوقٌ باليبوسيين والكنعانيين العرب، والأدلة تشير بوضوح إلى أنه عليه السلام قد سكنها دون أن يتملكها، وذلك حين خرج من العراق إليها مهاجرًا في سبيل الله تعالى.

وبالتالي فليس من حق ذريته زعم وراثتها بناءً على سكنه عليه السلام فيها.

ثانيًا: لو سلَّمنا بمحض الملكية فإنه عليه السلام كما أنجب إسحاق أبا بني إسرائيل فقد أنجب إسماعيل أبا العرب كذلك، فلماذا تكون ذريةُ واحدٍ أولى من ذرية الآخر!

ثالثًا: إنَّ وجودَ أهل فلسطين دائمٌ فيها ومتواصل لم ينقطع، أما وجود نبي الله إبراهيم عليه السلام وذريته من بني إسرائيل فقد كان متقطعًا، ولم تزد مدة بقائه عليه السلام فيها عن مائة سنة، ولم تزل المدة إلى حين خروج نبي الله يعقوب وذريته إلى مصر عن 230 سنة، وآخر انقطاع لهم عن هذه الأرض قارب الألفي سنة.

رابعًا: إنَّ الأمر بدخول الأرض المقدسة على عهد موسى عليه السلام كان على الصفة الشرعية، كما قال لهم: {يا قوم ادخلوا الأرض المقدسةَ التي كتب الله لكم} [المائدة: 21].

قال السدي في تفسير قوله: {التي كتب الله لكم}: أي: أمركم الله بها.

وقال محمد بن إسحاق: أي: التي وهب الله لكم كما في تفسير الطبري (10/169)، لكن الهبة تكون على الصفة الشرعية من وصفهم بالإيمان والصلاح؛ كما جاء هذا المعنى واضحًا في قوله تعالى: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عباديَ الصالحون}  [الأنبياء: 105].

ويزول النسب بالكفر كما في قوله تعالى لنوحٍ عليه السلام عن ابنه: {يا نوح إنه ليس من أَهلِكَ إنه عملٌ غيرُ صالح}

[هود: 46].

واليهود قد عبدوا العجل وقتلوا الأنبياء وقالوا: يد الله مغلولة، وحرفوا الكتاب وغير ذلك، فكفرهم حاصلٌ من وجوهٍ كثيرةٍ فلم يبقوا بذلك على عهد الله، وقد جاء في التنزيل:

{وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إمامًا قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين}

[البقرة: 124].

فلو ثبت العهد لهم فإنما حصل لهم بموجب الإيمان، وأنهم كانوا من أنصار الله والمجاهدين في سبيله، أما بعد أن كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأبوا الدخول في أمره، واقترفوا ما لا يحصى من الأمور المُكفِّرة مما سجلته سورة البقرة في الجزء الأول.. فقد زال عنهم الوصف الشرعي المقتضي لتكريمهم بتملك الأرض.

وبناءً على ذلك؛ فإنَّ كتابة الأرض المقدسة لهم يومئذٍ على لسان نبي الله موسى عليه السلام إنما وقعت لأنهم كانوا مؤمنين، في الوقت الذي كان فيه أهل فلسطين من الكافرين، ولهذا كنا معشر المؤمنين في صف طالوت وجنده لا في صف جالوت وجنده، مع أن تكييف المعركـ.ـة أنها وقعت بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وفرحنا بقتل داود الإسرائيلي لجالوت الفلسطيني.

أما الآن فقد تبدَّل موضع الفريقين، فصار اليهود كافرين، وصار أهل فلسطين مؤمنين، ولم تُسجَّل عليهم رِدَّةٌ عن الدين منذ الفتح الإسلامي على يد الصحابة رضي الله عنهم بفضل الله تعالى.

وبهذا صارت الأرض لأهلها من الوجهين: حق التقادم وحق الإيمان والصلاح.

خامسًا: جاء تأكيد الحق الإسلامي في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ليلة رحلة الإسراء والمعراج؛ إذ كان الإسراء لبيت المقدس والمعراج منه، هذا مع أنَّ مكة أفضل من بيت المقدس بلا خلاف، ولكن حصل الانتقال من المكان الفاضل إلى المكان المفضول.

ومن حكمة ذلك: نقل الإمامة من أنبياء بني إسرائيل فضلًا عمَّن تقدمهم إلى نبي هذه الأمة، ومما يدل على ذلك جمعُ الله للأنبياء في بيت المقدس تلك الليلة وتقدُّمُ النبي صلى الله بهم إمامًا في الصلاة.

روى النسائي في سننه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ثم دخلت بيت المقدس فجمع لي الأنبياء عليهم السلام فقدمني جبريل حتى أممتهم”.

وهذا إيذان بانتقال الإمامة لهذه الأمة، فالنبي صلى الله عليه وسلم تسَّلم أمانة الدين منهم في ديارهم، ومن ثم نشط الصحابة رضي الله عنهم في فتح بيت المقدس عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد فتحت سنة 16 هـ، وبقيت ملكًا للمسلمين لتكون أرض وقفٍ إسلامية لا يحل للأمة أن تُفرِّط فيها بأيِّ حال.

وهذا عرضٌ موجزٌ للجواب عن هذه الشبهة، ولمن أراد التوسع فهناك بحث لشيخنا د. صالح الرقب وفقه الله بعنوان: “ليس لليهود حق تاريخي في فلسطين”، وهناك مقالٌ نافعٌ كذلك لعادل مناع بعنوان: “هل لليهود حقٌّ في فلسطين؟”.

والحمد لله رب العالمين

تم تحريره عشية الاثنين 16-11-1444 هـ، الموافق 5-6-2023م

من د. محمد الأسطل

من علماء غزة وفقهائها