ابن تيمية المُفْترَى عليه من أنصاره وخصومه:

لا أعرف (مفكراً مسلماً) تراثياً أو معاصرا، قد شغل (عالم الأَكادِيميا) في الغرب، كما شغلها هذا الرجلُ الفقيه المجتهد المفكرُ المصْلحُ (ابن تيميه) !!

وأقدم هنا نموذجين اثنين، من هذا الاهتمام، يكشفان مدى اهتمام الجامعات ومراكز البحوث الغربية بفكر ابن تيميه.

يقول البروفيسور الياباني المعروف (كو ناكاتا) في حديث معه:

في الجامعات الغربية يدرسون ابن تيميه لأنهم يعتبرونه مفكرا عبقرياً موسوعيا.

وقد كتب كو ناكاتا نفسه رسالته للدكتوراه عن (النظرية السياسية) لابن تيمية، وهي منشورة باللغة العربية، كما أنه ترجم بعض كتب ابن تيمية إلى اللغة اليابانية .

وكذلك فإن المستشرق الفرنسي الذائع، تلميذ ماسنيون وخليفته، وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وعضو المجمع العلمي بدمشق (هنري لاوست) قد كتب رسالته للدكتوراة، وقدَّمها لجامعة السوربون عن (نظريات ابن تيمية الاجتماعية والسياسية)،

وقد ترجمها إلى العربية الدكتور محمد عبد العظيم، وقدَّم لها وعلَّق عليها أستاذنا الفضيل الدكتور مصطفى حلمي.

كما ترجم بعض كتبه إلى اللغة الفرنسية.

 كما أن جامعة (ماجيل) الكندية قد أنجزت رسالة دكتوراه عن فكر ابن تيمية، في كتابه:

«درءُ تعارض العقل والنَّقل».

وكذلك فإن جامعة (ييل) في الولايات المتحدة الأمريكية قد أجازت رسالة دكتورا ه عن فكر ابن تيمية في ذات الكتاب .

«الجوابُ الصَّحيحُ لمنْ بدَّل دين المسيح»

ولاحظتُ أن كتابه الرَّائع (الجوابُ الصَّحيحُ لمنْ بدَّل دين المسيح) قد شغل الأكاديميا الغربية بشكل لافت للنظر،

إِذْ أُجيزت عنه ثلاث رسائل، في جامعات (هارفرد) و(شيكاغو) و(وسط أوربا \ بودابست).

وقد اضطلع الدكتور توماس ميشيل، وهو الذي حصل على الدكتوراه في كتاب ابن تيمية (الجواب الصحيح)، بترجمة معظمه إلى اللغة الإنجليزية، وقد نظرتُ في ترجمته، ولي عليها مقال.

هذا ما عرفته، وهو -بلا ريب- قليل من كثير، لأن هنالك رسائل وبحوثا عن ابن تيمية، في الاستشراق الألماني،

لم أقع عليها لعدم معرفتي باللغة الألمانية، وأرجو من زملائنا الذين يُحسنونها أن ينقبوا عنها، ويكتبوا للمهتمين ما يقعون عليه.

هذا عن الرسائل الأكاديمية (دكتوراه وماجستير)، أمَّا عن الدراسات والأوراق البحثية، عن فكر ابن تيمية،

التي قدمها ونشرها باحثون غربيون، بلغات غربية متعددة، فهي كثيرة جدا يصعبُ علي حصرها في مثل هذا المقال!

إسهام ابن تيمية في تعديل مسار الفكر الإنساني

يمكنني أن أجزم بيقين أنَّ ابن تيمية قد (أسهم إسهاما فاعلا في تعديل مسار الفكر الإنساني؛ نعم الفكر الإنساني، وليس الإسلامي فحسب)!

تسألني: أَنَّى له ذلك؟

– أقول لك -رعاك الله-:

لقد كان منهج الفيلسوف اليوناني الكبير أرسطوطاليس، منطق القياس، مهيمنا على الفكر الغربي كله؛

لأن الكنيسة كانت قد تبنَّت منطق أرسطو؛ أي طريقته في التفكير والبحث، وأضفت عليها قداسة، ومنحتها حصانة،

وأضحى من المستحيل على العلماء والمفكرين والفلاسفة الخروج عليها، أو تقييمها ونقدها!!

وقد كان المسلمون منذ عصر الإمام الشافعي بين متشككٍ في صلاحية منطق أرسطو، وقدرته أو فعاليته في زيادة العلم وإنتاج المعرفة الجديدة، وبين مؤيد متحمس له .

واستمر الحال إلى أن ظهر ابن تيمية المتوفى 728 للهجرة \ 1238م،

وبذل جهدا كبيرا في الإحاطة بكتابات العلماء المسلمين النقدية المبينة لسلبيات منطق أرسطو، واستجمع عبقريتة وخاض في هذا البحر المحيط؛

مستثمرا كتابات المسلمين الناقدة لأرسطو، وعمَّقها، وتبحَّر في نقد منهج التفكير الأرسطي السَّائد والمهيمن،

والذي تسلّل إلى فروع العلم الإسلامي المختلفة مثل: أصول الفقه، وعلم الكلام، والنحو، والبلاغة، والتفسير..

وغير ذلك، بحيث أصبح من يقرأ هذه الكتب -اليوم- وليس لديه معرفة بمصطلحات منطق أرسطو وحدوده وتقسيماته،

يعسُر عليه أن يستمر في قراءة مثل هذه الكتب الإسلامية التراثية، مع الأسف البليغ.

كتب ابن تيمية كتابين بالغي الأهمية والعمق؛ هما (نقض المنطق، والرَّد على المنطقيين، وهما من كتبه بلا ريب!!) وبث وجهة نظره هذه في بطون كتبه الموسوعية الأخرى.

 انتهى ابن تيمية إلى نتائج واضحة محددة، خلاصتها:

أن منطق أرسطو يصيب العقل الإنساني بالجمود والعقم، ومن ثم لا حاجة إليه البته،

فلا يحتاج إليه الذكي، ولا يستفيد منه الغبي، وأنه في جوانب كثيرة منه ينطوي على سلبيات ومثالب وأخطاء عديدة .

وبعد أن نجحت حركات الإصلاح الديني في الغرب -بتأثير مباشر- من الفكر الإسلامي،

وضعفت سلطة الكنيسة وهيمنتها على العلماء والفلاسفة والمفكرين، بدأ المفكرون الغربيون في القرن السابع عشر يتساءلون: لماذا نتأخر نحن ويتقدم الآخرون؟

وتنبهوا -بتأثير مباشر من الفكر الإسلامي- إلى أن منهج أرسطو في التفكير والبحث العلمي، هو المسئول الأول عن تخلفهم، وشمَّروا عن سواعدهم في نقده -دونما خوف من الكنيسة- وبيان مثلبه،

وعملوا على إزاحته من الساحة الفكرية والعلمية تماماً،واستثمروا نتائج بحوث العلماء المسلمين ن وفي المقدمة منهم (ابن تيمية)

تذكير:

«كانت الجامعات الغربية الكبرى قد افتتحت خمسة أقسام علمية للغة العربية والإسلاميات سنة 1312م،

واستمر افتتاح الأقسام العلمية في بقية الجامعات الأوربية يترى،

وكان قد بدئ في نقل المخطوطات العربية الإسلامية إلى هذه الأقسام وقراءتها من الطلاب والأساتذة والمهتمين عموما».

واقترح فلاسفتهم الكبار:

1- التخلص النهائي من منطق أرسطو.

2- تقديم منهجين للتفير والبحث العلمي يحلان محل ذلك المنطق سيء السمعة (وهو منطق جدهم أرسطو) .

3- قدم الفرنسي رينيه ديكارت المنهج الاستنباطي.

4- وقدم الإنجليزي فرانسيس بيكون المنهج الاستقرائي، في كتاب سمَّاه: الأُورجانون الجديد، بدلا من (أُورجانون جده أرسطو)!!

وقد كان لكتابات ابن تيمية الناقدة لمنطق أرسطو، والتي انتشرت قبل كتابات بيكون وديكارت بقرنين على الأقل، دور بارز في إلهام الأوربيين وتنبيههم إلى ضرورة تعديل مسار الفكر وطرائق البحث العلمي.

وانطلق الغربيون -مستثمرين كتابات المسلمين أحسن استثمار- ومضوا في الشوط إلى نهايته، وأحدثوا نهضة غربية فكرية وعلمية كبرى، وقادوا العالم وتسيَّدُوه، ونشروا فيه طرائق تفكيرهم وبحثهم، ولا يزالون!!

والله أعلم.

د. محمد الشرقاوي

من د. محمد الشرقاوي

أستاذ الفلسفة الإسلامية، والدراسات الدينية والاستشراقية في جامعه القاهرة.