نشأ البيروني في وسط آسيا، وكان نابغة ذا أفق إنساني فسيح.

لا حظ مع أستاذه (الإرانشهري) أن المكتبة الإسلامية تعاني شحا ونقصا فيما يتعلق بالهند وعلومها وفلسفتها وأديانها ولغاتها، فأخذته الغيرة الفكرية، فنذر نفسه للقيام ببعض هذه المهمة الجسيمة، وسد هذه الثغرة العلمية.

وتوكل على الله،  وسافر بنفسه إلى الهند،

وبدأ سلسلة متكاملة من الدراسات الميدانية المتشعبة،

التي تناولت كل الجوانب المهمة للحضارة الهندية؛ الأديان والمذاهب،

والفلسفات والرياضيات والعلوم واللغات والاجتماع والأنثروبولوجيا وحتى الجغرافيا والإثنولوجيا.

والهند حضارة منغلقة على نفسها جغرافيا وعرقيا،

وتنظر إلى غير الهنود نظرة دونية أسوأ من نظرة الفلاسفة الإغريق (أرسطو وأستاذه أفلاطون مثلا) إلى الآخرين بحسبانهم همجا وبرابرة،

نظر الهنود إلى الآخرين على أنهم (إمليج) أي: أنجاس، وعليه فإنه يحظر عليهم تعلم لغتهم (السنسكريتية)، ويحرم عليهم التعرف على أديانهم!!

وجد البيروني (ت 444 هجرية) نفسه -في الهند- واحدا من الأمليج الأنجاس، المحرم عليهم تعلم اللغة السنسكريتية، وقراءة الكتب الهندوسية،

فاحتال الرجل، وجاء بمن يعلمه، ومن يحصل له على المخطوطات والكتب،

ومن يأخذه ليحتك بالمجتمع، ويناقش العلماء والفلاسفة والرهبان، ويحضر المناسبات ويزور المعابد الهندوسية ويناقش البراهمة الكبار.

مكث البيروني أكثر من عشرين سنة يدرس ويشاهد ويسجل، ويناقش ويجمع الكتب،

وسجل الرجل ذلك كله في كتاب عنوانه «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة».

والعنوان يعني أنه سيحقق مقولات الهند الدينية والفلسفية والاجتماعية والثقافية في ضوء العقل، ليستبين له المقبول من المردود.

ويعد هذا  الكتاب الذي كتب قبل 1000 عام، مرجعا علميا معتبرا يدرسه الباحثون في علم الدين المقارن، في الغرب والشرق، بل وفي الهند نفسها.

وقد حقق هذا الكتاب ونشره المستشرق سخاو منذ عشرات السنين.

يضاف إلى ذلك،

أن البيروني قد ترجم أجزاء رئيسة من كتب الهند المعتبرة لديهم إلى اللغة العربية لأول مرة في تاريخ الهند،

وللمرة الأولى أتيح للناس خارج الهند قراءة جانب مهم من فكر الهند الديني والاجتماعي؛

لقد ترجم  البيروني كتابي «بهاجوات جيتا، وباتنجل» إلى العربية، ثم ترجما من العربية إلى الفارسية،

ومنها إلى اللغات الأوربية الحديثة.

   تحية لهذا العالم الكبير الذي يعد مؤسسا ورائدا في علوم عديدة.

د. محمد الشرقاوي

من د. محمد الشرقاوي

أستاذ الفلسفة الإسلامية، والدراسات الدينية والاستشراقية في جامعه القاهرة.