«إنهم كانوا قبل ذلك مُترفين»!

هكذا وصف الله تبارك وتعالى أهل النار (أصحاب الشمال)،

وهذا وصف مخيف ومقلق،

وأقول: وصف، ولا أقول: سبب لدخول النار،

لأن الترف وحده ليس جريمة في ذاته، وهناك مؤمنون صالحون يعيشون في ترف،

وبالتأكيد ليس كل الكافرين مترفين.

لكن.. يبقى التساؤل والنظر في أهمية وخطورة الترف، وأنه وإن لم يكن سببا مستقلا لدخول النار، فهو جزء من سبب ولا شك.

أولا: ما هو الترف؟

الترف هو التوسع في النعم والملذات الحلال، على وجه يزيد تعلق الإنسان بها، وعدم قدرته على الاستغناء عنها أو حتى التقليل منها.

وثانيا: تأمل معي – وفقك الله – إلى بعض النصوص القرآنية الأخرى، التي تذكر الترف في سياق الذم والتحذير،

كقوله تعالى:

(واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين).

(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا).

(لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون).

(وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون).

(حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون).

(وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون.)

(وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون).

هذه النصوص الكريمة ينبغي أن تلقي في قلوبنا خوفا وحذرا من أن نكون من المترفين.

وهناك أشكال مختلفة للترف الذي يمكن أن ننجر إليه تدريجيا، ومن أمثلتها:

التوسع في ألوان الطعام والشراب، والتفنن الذي لا ينتهي فيها، حتى اصبح كثير من أطفالنا يأنفون من أكل كثير من الأطعمة لأنها لا تناسب أذواقهم المترفة ١٠٠٪، وحتى انتشرت الوجبات الجاهزة بشكل عجيب.

التوسع في الملبوسات، والماركات والتباهي بها والتنافس فيها، حتى أصبحت قيمة اجتماعية تشرأب بها الأعناق أو تنكسر بها القلوب!

التّوسع في الترفيه (وهو مشتق من الترف!) حتى أصبح أمام أولادنا عشرات القنوات ومنصات الأفلام ومنصات التواصل، ومع ذلك يشتكون من الملل لأنهم تقريبا شاهدوا كل ما هو معروض! ولا يدركون أن الترف والترفيه لا سقف له، ولا حد أعلى لبلوغه.

التوسع في العناية بشكل الجسم ومواصفاته، حتى بلغ الأمر – بالنساء خاصة – أن تصبح وجوههن كلها اصطناعية بشكل أو بآخر، مع ما يكلفه هذا من أموال وأوقات وضغوط نفسية هائلة. وأصبحت المراكز الرياضية، للعناية بشكل الجسم، وليس بكونه رياضيا أو نشيطا.

أحبابنا الكرام/

مرة أخرى: هذه النعم كلها حلال، لكن الإشكال في التوسع والاستزادة، عن حد الاعتدال.

هذا المرض خطير وقلما يسلم منه أحد إلا من رحم الله، ويحتاج انتباها وحذرا، حتى لا نكون في زمرة هؤلاء الذين ذمهم الله تعالى في الآيات السابقة.

وقد رأينا تلك الآيات تربط “الترف” بالفسق،

وتربط الترف بالظلم والسكوت عن الفساد في الأرض،

وترْبط الترف بمواجهة الهداية، والدعوة إلى كل ما هو ضد الاستقامة،

وتربط الترف بمناهضة الرسل وتكذيبهم،

بل وتربط الترف باستحقاق العذاب من الله!

الترف يضعف الإنسان، ويضعف قدرته على التحمل، ويوهن من إرادته وهمته وعزمه.

والدنيا تحتاج إلى صبر وتصبر،

وكان الإمام أحمد يقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنها أيام قلائل، فلا تنظر إلى لذة المترفين، وتَلَمَّحْ عواقبهم، ولا تضق صدرًا بضيق المعاش، وعلل الناقة بالحدْو تسِرْ.

وأخيرا، لنتأمل معا هذا الحديث من صحيح البخاري:

أن عبد الرحمن بن عوف (أحد العشرة المبشرين بالجنة، رضي الله عنه) أُتي بطعام، وكان صائمًا، فقال:

قُتل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بردة، إن غُطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه، ثم بُسط لنا من الدنيا ما بُسط -أو قال: أُعطينا من الدنيا ما أُعطينا-، قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا،

ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام.

تأمل هذا الحديث الشريف، وتأمل مشاعر هذا الصحابي الجليل، ودقق في ألفاظه، لترى ما كان عليه الصحابة الكرام من عمق العلم ودقة الفهم وروعة الامتثال، رضي الله عنهم جميعا.

من د. محمد هشام راغب

عميد الدراسات القرآنية - جامعة مشكاة